علي نون

«علاجه» صعب، وامتحانه أصعب السيد العراقي مقتدى الصدر! ونتائج الانتخابات التشريعية زادت من حرارة التوصيف ولم تخفّفه. وفتحت أبواباً، «جاهدت» إيران بكل زخمها لإبقائها موصدة. وأولها تلك التي تفضي إلى ثنائية آتية من التاريخ: وطنية مضادّة للتقسيم الطائفي والعرقي. وقومية عربية مضادّة لقومية فارسية، لا ينكرها أصحابها في كل حال، حتى وإن وضعوا المُعطى المذهبي في صدارة السعي وافترضوه حبلاً متيناً رابطاً يمتد من أفغانستان وباكستان إلى لبنان!

تفلّت السيد الصدري المرجعي، في السنتين الماضيتين أطلق العنان لتفلّت غيره من السلالات الدينية الثقيلة، ووضع النافذ الإيراني في موضع الحرج والحيرة: التصدّي له عسكرياً على الطريقة التي اعتمدها نوري المالكي سابقاً، لم تعد واردة. لأن الميليشيا الصدرية حلَّت نفسها بقرار من زعيمها مقتدى أولاً. ولأن المعادلة في ذاتها لم تعد تنفع ثانياً. ولأن «الحشد الشعبي» التابع لـ«الحرس الثوري» مباشرة، والشبيهة حالته بحالة «حزب الله» في لبنان، لم يستطع أن يفعل في العراق ما فعله صنوه اللبناني.. لم يقرّش عسكريته بين شيعة العراق! ولم يختصر غيره في ادّعاء الإمساك بالقرار! ولم يترجم انتشاره في الشارع والسلاح أصواتاً في البرلمان!

وعدا عن ذلك كله: صار عنواناً اختصارياً لأمرَين سلبيين كبيرين. الأول هو أنه أداة فتنوية مذهبية في وجه المكوّن السنّي العربي. وبالأبعاد العميقة للقرار بصفائه التام غير الملوّن بأي شبهة سياسية (أي شيعة مقابل سنّة، ونقطة انتهى النقاش!) والثاني أنه صار الجسم الميليشيوي الوحيد (على الطريقة اللبنانية!) الدّال على كسر احتكار الدولة لحمل السلاح عبر قواها الشرعية العسكرية والأمنية.

محاولة «معالجة» حالة الصدر من خلال الانتخابات أعطت مفعولاً عكسياً يقارب الكارثة لإيران ومشاريعها العراقية والعابرة فوق العراق: تبيّن أن السيد مقتدى صار وعاءً حاضناً لأوجاع كثيرة أكثر من كونه في ذاته وخطابه موضع جذب يستحق الريادة السلطوية. وأول تلك الأوجاع هي المنسلّة من نتاجات منظومة الفساد الاسطوري التي تنامت في ظلّ الاحتلال الأميركي، وزادت نمواً بعد رحيل ذلك الاحتلال (نسبياً!) ثم الآتية من حُكم قاطع يقول بأن الإرهاب الداعشي وغير الداعشي هو نتاج سياسات (إيرانية) قبل أن يكون نتاج إدّعاء سنّي بردّ طغيان شيعي! ثم الآتية في صحبة أليفة واحدة من موروث عميق الجذور هو أن الإيرانيين على مدى حقبات التاريخ الإسلامي وما قبل الإسلامي (ساسانيين وصفويين وفُرساً) كانوا ولا يزالون في المقلب الآخر المضادّ للعرب. أقواماً وقبائل وطوائف ومذاهب سابقاً. ثم دولاً وكيانات لاحقاً. مثلما أنهم في المقلب الآخر المضادّ للمكوّن الكردي قومياً وجغرافياً!

وهؤلاء في بغداد! ولا يخفون تشاوفهم بذلك! ولا يخبئون نفوذهم ولا «مستشاريهم» ولا تدخّلاتهم! بل المفارقة تكمن في أنهم ردّوا الاعتبار للمُعطى القومي العربي بعد أن كان هذا تهافت تحت وطأة «البعث» وارتكاباته وخطاياه! وغَارَ عميقاً في حواشي الصدور الملتاعة من الفظاعات والدمويات التي سُجِّلت في ظل شعار «الأمّة العربية الواحدة».. الخ!

مقتدى الصدر هو ثاني أصعب امتحان يواجه الوصي الإيراني في بغداد. وصعوبته بالمعنى السياسي أعقد من صعوبة الامتحان الأول الذي تمثّله المرجعية الدينية للسيد السيستاني في النجف. لكن الإثنين في خلاصة الضنى والنتائج الختامية يدلاّن على نتيجة واحدة: سقوط إيران في العراق.. أم ماذا؟!