يوسف الديني
لا يمر أسبوع إلا ويحاول النظام القطري تحقيق مراده بعد أن بات معزولاً عن السياق الخليجي، بل عن قراءة مستقبل الداخل القطري في ظل الاستنزاف للموارد للبقاء وتجاهل أساس المشكلة وترحيلها نحو صراعات سياسية جديدة، هذه الصراعات القطرية بدأت بتسييس كل شيء ليس لإثبات الذات القطرية وإنما للإصرار على عدم ملامسة أساس المشكلة، وهو ما كان واضحاً وموثقاً منذ البداية بانتهاكات سيادية كبرى، ودعم للإرهاب على شكل تنظيمات وميليشيات وقيادات ورموز، وتحويل الدوحة إلى مركز يستقطب كل التيارات المتطرفة باختلاف أسمائها وأجنحتها، وعلى المستوى الخارجي بالتدخل السافر في الشأن المصري والليبي وشرق أفريقيا خصوصاً الصومال، ثم لاحقاً الالتفاف على الإجماع العربي في ضرورة قطع تدخلات الملالي السافرة في اليمن للاستماتة في تصوير التحالف الإسلامي وعاصفة الحزم على أنها فشلت، وتحويل أكاذيب ودعايات الحوثيين إلى محتوى خبري لكل برامج «الجزيرة»، وتسويق المظلومية المصطنعة للميليشيا التي جرفت هوية اليمن إلى أنها صوت اليمن ضد الخليج، وتجاهل كل النجاحات الكبيرة على المستوى الإنساني للحفاظ على الشرعية.
ماذا بعد في السياسة التجريبية لقطر؟ الكثير من الحيل للالتفاف على جذر المشكلة وعدم الاعتراف بها أو حتى مقاربتها في سبيل تحسين ملف التعاطي مع مسألة الإرهاب والتدخل السيادي الذي لم يعد مطلباً لدول المقاطعة بل هو توجه عالمي تقوده الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية. فالجميع يتفق على ضرورة إنهاء التدخلات الإيرانية ممثلةً في إرسال الأسلحة وتهريبها إلى اليمن، وتدريب الحوثيين، والتدخل في الأزمة السورية. لكن كل ذلك في سياسة التجريب القطرية يتحول إلى دافع للإيغال في تلويث السياسة وتعميمها لتكون مناخاً تصبغ فيه كل الملفات عبر ذراعها الإعلامية التي تحولت من قناة إخبارية إلى قناة ردح سياسي واستهداف مباشر حتى في أصغر الأمور، وهي مشاركة السعودية في كأس العالم الأخيرة، بل وتتبُّع أدقّ تفاصيل الحياة اليومية في السعودية عبر «السوشيال ميديا» والتقاط ممارسات أو ملفات صغيرة وتحويلها إلى ملف تثوير ضخم لإيصال صورة مغايرة للمشاهدين خصوصاً في الدول التي تعاني من فوبيا الخليج المستقر عطفاً على انكسارات تلك الدول بعد الربيع العربي.
وفي مقابل سياسة التجريب القطرية حدثت تطورات نوعية في دول المقاطعة التي تمضي في استثمار «فضيلة الاستقرار» لتأكيد موقفها الثابت ضد الإرهاب ومموليه والمتحدثين باسمه والمدافعين عنه بل والمحتضنين لرموزه وقياداته: ذكرى التحول النوعي في دولة مصر ضد التطرف والإرهاب بعد خمس سنوات من خرائب استهداف الاستقرار المصري. والحدث الثاني، مبادرة المملكة التي شكّلت سياسة استباقية ضد تسييس محتمل ومكرر لملف الحج، حيث بادرت إلى إعلان ترحيبها بالحجاج القطريين وعدم تجاوب مكتب شؤون حجاج قطر مع الجهات المعنية لإنهاء ترتيبات شؤون الحجاج القطريين ومتطلباتهم، وعطفاً على ذلك أعلنت المملكة أنه بإمكان القطريين الراغبين في أداء فريضة الحج التسجيل على موقع وزارة الحج واختيار الترتيبات المتعلقة بالسكن والطيران.
الحدث الثالث، فشل ترحيل أزمة قطر مع نفسها تجاه دولة الإمارات من خلال التصعيد أمام محكمة العدل الدولية، والتي أسفرت عن تكذيب الدعاوى القطرية عبر مرافعات الفريق القانوني للإمارات بالأرقام في ملفات التعليم والتطبيب، وتأكيد حق دولة الإمارات كما هو الحال مع بقية الدول في اتخاذ إجراءات سيادية تضمن عدم التدخل في شؤونها بما يقوض استقرارها وأمنها.
الهروب من سؤال المقاطعة الذي ما زال عالقاً في الدوحة لا يمكن الإجابة عنه عبر سياسة الهروب إلى الأمام وتجريب كل التصعيد السياسي حتى في القضايا غير السياسية، ولم يعد يجدي الاستثمار في شركات العلاقات العامة الغربية أو الاستخباراتية لتثوير الأزمة القطرية أو التأليب ضد دول المقاطعة، فالواقع على الأرض لا يمكن تغييره عبر محاولات كتلك، وحتى الورقة الإعلامية التي يجتهد النظام القطري في تسويقها عبر قناة «الجزيرة» لم يعد مؤثراً بسبب الإعلام المضاد في محطات التواصل الاجتماعي، إضافةً إلى أن المتابع العربي بات يدرك عمق الأزمة كلما تكشفت الملفات وآخرها دعم الحوثيين في اليمن، وتأخير الحل في ليبيا، واستهداف استقرار مصر، ونشر الشائعات عن المملكة، وشخصنة السياسة بطريقة تتنافى مع أبسط مبادئ المهنية الإعلامية.
الأكيد أن دول المقاطعة ما زالت وستظل تعترض على أسلوب قطر في إدارة أزمتها مع ذاتها، سواء بالتلويح بعلاقات أكثر عمقاً مع إيران، أو استثمار علاقتها مع تركيا، أو حتى بناء علاقات مع كيانات غير سياسية مثل ميليشيا الحوثي أو جماعات المعارضة وشخصيات متطرفة ليس لها أي تأثير بعد سقوط قوة الإسلام السياسي وتأثيره كمنظومة وكرموز، والاعتراض على أسلوب قطر هو جزء من الحفاظ على السيادة وليس خوفاً من تأثيره أو ارتداداته، فالمنطقة تتجه إلى حرب لا هوادة فيها ضد الإرهاب ومنابعه، وهو ما يعني انهيار كل الاستثمارات لإيران بالأصالة ولقطر بالتَّبَع، وحتى تبني المعارضات السياسية الهشة رغم الإنفاق القطري الكبير عليه وبناء شبكات إعلامية افتراضية على الإنترنت لم يؤدِّ إلى نتائج حتى الآن، بل زاد من ضآلة بناء علاقات صحية وجيدة ليس مع دول المقاطعة بل حتى مع الدول التي تعاني من سلوك النظام القطري.
أزمة السلوك لا يمكن حلها إلا بتغيير منهجي ينطلق أولاً من العودة إلى مسببات الأزمة وليس الهرب منها وترحيلها إلى مواقع أخرى، فالوقت لا ينتظر كما يؤكد شعار أخبار «الجزيرة».
التعليقات