محمد السعيدي
من المثير في شخصية هذا القائد الفذ رحمه الله أن رفضه إعلان الحرب على العثمانيين كان أثناء موقعة جراب التي دعم العثمانيون فيها ابنَ رشيد بالمال والسلاح
بعد معاهدة كارلوفيجي عام 1110هـ والتي أعقبت هزائم متكررة للدولة العثمانية أمام ما عُرف بالحلف المقدس والمكون من إمبراطوريات كل من النمسا وروسيا وهولندا وليتوانيا؛ أدرك العثمانيون: أن هزائم الأوروبيين وانكساراتهم على أيديهم طيلة ثلاثمائة عام قد استفاد منها الأوروبيون في تطوير قدراتهم وآلاتهم ومهاراتهم العسكرية، في حين بقيت الجيوش العثمانية على نمطها القديم الذي تركها عليه محمد الفاتح، ورأوا ضرورة الاستفادة من الخبرات والمهارات والصناعات الحربية الأوروبية لإعادة بناء جيوشهم؛ من ذلك الوقت بدأ ابتعاث الضباط العثمانيين إلى فرنسا ليتعلموا فنون العسكرية الأوروبية هناك، وأيضا جلب الضباط الفرنسيين إلى إسطنبول لتدريب الجيوش العثمانية وبناء المعاهد لهم، وجلب صناع المدافع الأوروبيين ليقوموا ببناء المدفعية العثمانية؛ كما جلب العثمانيون الخبراء الفرنسيين لإعادة ترتيب وتسليح البحرية العثمانية.
ومع هذا الشعور بعظمة فرنسا والاحتياج العظيم إليها في الجانب العسكري بدأت العناية بالعادات الفرنسية تغزو حياة الطبقات السياسية العليا والنبلاء الأتراك من أمراء وتجار وإقطاعيين، حتى حياة السلاطين العثمانيين أنفسهم وأساليب حياتهم وترتيب أثاث قصورهم، كل ذلك اصطبغ بالصبغة الفرنسية قليلا أو كثيراً؛ ومع دخول الطباعة وانتشار الكتب دخلت الآداب الفرنسية والفلسفات والفنون الأوروبية وبدأت تصبح محل عناية المثقفين العثمانيين واغتباطهم.
ولم يلبث هذا التأثر الكبير زمناً طويلاً حتى وصل إلى القوانين العثمانية التي بدأت تأخذ بشكل كبير ومتسارع من القوانين الأوروبية.
كل ذلك كان تحت دعاوى الإصلاح، وكان يتم تبريره على أنه مجرد جمع واستفادة من مختلِف الثقافات لكن الحقيقة كانت مُرَّة بشكل عَبَّر عنه بعض كتاب البلاط العثماني في رسائل عدة بعثوها للبلاط نقل أجزاءً منها برنارد لويس في كتابه
«كيف تكونت تركيا الحديثة»، فقد أدى هذا التأثر إلى ضعف الولاء للأسرة العثمانية الحاكمة والاستهانة بالشعارات الدينية التي قامت عليها الدولة، وأصبحت الشعوب التي كانت تُقْبِل على الحكم العثماني لما يمثله من معان دينية تسخر من تمثيل الدولة لهذه المعاني، ولم يعد يربطها بها إلا القوة والمصلحة؛ وقد برز ذلك في حادثتين متقاربتين:
الأولى: قيام الثورة الفرنسية عام 1203 حين فوجئ السلاطين العثمانيون بأن قِيَم هذه الثورة حاضرة بقوة لدى الشباب العثماني في إسطنبول نفسها عاصمة الدولة، من خلال قراءاتهم الكثيرة لفولتير وروسو وفيكتور هيجو، ومن خلال التقاليد الأوروبية التي أدخلتها الدولة في حياة الناس.
ثم تبعها بعد سنوات قليلة الغزو الفرنسي لمصر والذي استطاع فيه ثلاثة آلاف جندي فرنسي انتزاع مصر من الدولة العثمانية وظهور عجز العثمانيين الكبير عن حماية ممتلكاتهم من الغزو الأوروبي، حيث لم يخرج الفرنسيون من مصر إلا بعد هزيمتهم أمام الإنجليز وتجلى للشعوب العثمانية أنه لولا انشغال الأوروبيين ببعضهم لتم اكتساح الغرب لجميع أراضي الدولة منذ حين.
الآخر: استقلال محمد علي باشا بمصر والشام وغزوه الأناضول واقترابه من إسقاط عاصمة الخلافة، ولم تتحرك الشعوب العثمانية حتى التركية منها لنصرة الدولة ولولا وقوف روسيا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا في وجه محمد علي وإلزامه بالتراجع في معاهدة كوتاهيه (1249هـ) لكان السلطان محمود الثاني [توفي 1255هـ] آخر سلاطين بني عثمان.
وقد أدركت الدول الغربية منذ تلك الأوقات عن طريق ما كان ينقله لها سفراؤها مدى أهمية المد الثقافي الغربي بين المثقفين في إسقاط الدولة العثمانية؛ وهو بالفعل ما وقع حيث سقطت الدولة على يد الاتحاديين الذين أجبروا السلطان عبدالحميد على توقيع الدستور المستقى من الدستور البلجيكي عام 1326هـ.
واشتغلت بقوة مشاريع المد الثقافي الغربي في جميع بلدان العالم الإسلامي تمهيداً لاحتلالها، حيث وقع الاحتلال الذي سموه استعماراً وهو يَجِدُ في استقباله بيئات مثقفة تنتظره على أحر من الجمر، ورحل من جميع تلك البلاد وقد غير في بنية جميع الشعوب المسلمة في ثقافاتها وتصوراتها وعاداتها إلى ما تقترب به من الثقافة الغربية.
ومضى الاستعمار تاركاً الشعوب في ولاية حكومات من أبناء البلاد تفشل في كل شيء إلا في المشاريع التي تزيد في تقدم شعوبها نحو التغريب.
وقد عرف الملك عبدالعزيز رحمه الله جيداً مخاطر المد الثقافي الغربي على الدين والأمة، ولذلك صرَّح في لقائه مع والي المدينة الأسبق من قِبَل العثمانيين فخري باشا بأن خصومته لم تكن مع الدولة العثمانية بل مع الاتحاديين، وكان ذلك اللقاء في مكة سنة 1344 بعد سقوط الدولة العثمانية.
كما حرص المؤسس رحمه الله وهو في طور تأسيس الدولة وقبل أن تتضح معالمها على تعريف الدول العظمى بأنه في سياق تأسيس دولة تحكم بالشريعة الإسلامية؛ ففي التقرير الذي رفعه الكابتن وليم شكسبير إلى المعتمد البريطاني في الكويت يذكر فيه رفض الأمير عبدالعزيز إعلان الحرب على الدولة العثمانية، ويطالب بريطانيا بالاعتراف بحدوده إذ ذاك سنة 1333هـ معلناً كون القضاء في المناطق التابعة له وفقاً للشريعة الإسلامية، على أن يخضع لهذا القضاء جميع المقيمين في المناطق التابعة له حتى ولو كانوا من رعايا بريطانيا.
وكان اضطرار بريطانيا لإرسال وليم شكسبير للقاء عبدالعزيز بالرغم من صعوبة الوصول إليه آنذاك بسبب تجاهله العرض الذي قدمه نائب المعتمد البريطاني في الخليج بأن ينضم عبد العزيز إلى شيخي الكويت والمحمرة لمهاجمة البصرة في مقابل الاعتراف به ودعمه.
ومن المثير في شخصية هذا القائد الفذ رحمه الله أن رفضه إعلان الحرب على العثمانيين كان أثناء موقعة جراب التي دعم العثمانيون فيها ابنَ رشيد بالمال والسلاح وحرضوه على القضاء على ابن سعود؛ وفعلاً انتصر ابن رشيد في تلك المعركة لكن عبدالعزيز لم يغير موقفه الرافض لمحالفة بريطانيا ضد العثمانيين، وكانت ردة فعله أنه قام في هذا الوقت العصيب بمحاولة عقد مؤتمر لزعماء الجزيرة العربية لاتخاذ الموقف المناسب في هذه الحرب الدولية والخروج منها بأفضل المكتسبات للعرب والمسلمين، فأرسل دعوة لغرض الاجتماع والتدارس لكل من ابن رشيد والحسين بن علي وإمام اليمن يحي وابن صباح، إلا أنه لم يستجب لهذه الدعوة سوى شريف مكة الذي أرسل ولده عبدالله ليتباحث أيضا مع ممثل للملك عبدالعزيز، لكن الشريف طلب مشاركة عبدالعزيز في الثورة العربية ضد العثمانيين مستغلاً انشغالهم في الحرب ضد الإنجليز، إلا أن عبدالعزيز اعتذر عن هذه المشاركة.
من يقرأ مراسلات المؤسس السعودي مع بريطانيا يجد أنه استخدم فيها قدراً كبيراً من الدبلوماسية والمداراة اللائقة بمؤسس دولة ناشئة مع أكبر دولة استعمارية، لكن الحقائق تؤكد أنه لم يقدم لبريطانيا شيئاً مما كانت تريده منه ضد الدولة العثمانية، بالرغم من وقوعها تحت سيطرة الاتحاديين الذين لم يكن عبدالعزيز يُكِنُّ لهم ودا؛ وقد تفهم القادة العثمانيون ذلك وعبر عنه قائد الجيش الرابع ووالي الشام جمال باشا بقوله: «لم يكن في استطاعته أن يمد لنا يد العون المباشر لقربه من الإنجليز، إلا أنه كان شخصياً نافعاً جداً، إذ أرسل الجمال للجيش وسمح بتصدير التجارة من بلاده إلى سورية» [الدولة العثمانية والملك عبدالعزيز 284]. والجِمال التي أشار إليها جمال باشا هي أربعة عشر ألف جمل أمد بها الملك عبدالعزيز الجيش العثماني في حملته على قناة السويس، وذكر الباشا تفاصيل إرسالها في مذكراته [المرجع السابق].
فإذا كان القادة العثمانيون المباشرون لعلاقة دولتهم بالملك عبد العزيز يقدمون هذا الوعي بحقيقة موقفه تجاههم، فمن أين تأتي الحجة لمن يحاولون اتخاذ علاقته رحمه لله بالعثمانيين مطعنا في تاريخه.
التعليقات