محمد قواص

تفصح التصورات الميدانية في سورية كما تلك الدولية في تجلياتها في هلسنكي، أن الحرب السورية انتهت وأن العالم يناقش مخارج الأزمة ومداخل مآلها النهائي. لم يعد خافياً أن ما سنشهده على خطوط التماس العسكري والسياسي لا يعدو كونه تفصيلات ستجرى مقاربتها بما يتّسق مع المزاج الدولي العام الضاغط باتجاه إقفال هذا الملف.


وأياً تكن مآلات موقع إيران داخل مصير سورية، فإنه بات حتمياً أن قيمة حصاد طهران هناك سيكون أقل من قيمة فلاحتها في الحقول السورية، وأن دفع إيران خارج التسوية الأميركية - الروسية - الإسرائيلية - الأردنية في جنوب البلاد هو مؤشر أولي إلى أعراض ضمور «الحالة الإيرانية» في سورية حتى لو كان ذلك لا يرقى إلى طموحات خصوم طهران بخروج النفوذ الإيراني كاملاً من سورية.

عليه، فإن «حزب الله» يلمـــلم وجوده في ســـورية ويســلك طريق الخروج مما بات ساحة حيوية لروسيا، وهو يخطط بدأب لعهد العودة إلى مواقعه اللبنانية. ولا تعني تلك الـــعودة تبدلاً جغرافياً تكتيكياً فقط، بل إن في تلك العودة جنوحاً نحو مزيد من اللبنـــــنة وإمعاناً في الانخراط داخل اللعبة السياسية المحلية وقواعدها في الداخل كما في أبجديات علاقاتها مع الخارج.

والمراقب الاستقتال الذي أظهره الحزب في الدفاع عن مواقعه داخل البرلمان في الانتخابات الأخيرة، يُدرك أن أمر الداخل اللبناني بات خياراً نهائياً أخيراً وربما وحيداً بالنظر إلى انسداد سبل التبشير بدوره المفصلي في تحرير فلسطين أو في تصدير ثورة طهران الإسلامية أو الانخراط في أممية متقادمة لمصلحة طموحات الولي الفقيه.

ثم إن «الانكفاء» الذي يسلكه «حزب الله» باتجاه لبنان مرتبط بتضعضع الظاهرة الإيرانية التي وسمت تاريخ المنطقة منذ عام 1979. تتمترس إيران خلف أسوارها تستعد مرغمة لوقف تصدير ثورتها وتراقب بيأس تقهقر حضورها داخل العواصم الأربع التي أعلنت احتلالها. بات الشارع الإيراني متمرداً عصياً لا يجاري الحرس الثوري في امتداداته، بالتالي يسحب أي شرعية ثورية عن استمرار تدفق ثروات البلد نحو مصبات بعيدة لتغذية الميليشيات والتيارات والجماعات الموالية لخط القائد في طهران.

يقرأ «حزب الله» بدقة خريطة التحولات الدولية الكبرى. راقب قمة هلسنكي وتأمل مآلات المشهد الإيراني منذ انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق النووي وخطة مايك بومبيو ضد نظام الجمهورية الإسلامية. تدرك بيئة الحزب أن ما تفاخر به أمين عام الحزب من مال تغدقه إيران على حزبه تعرض لضغوط مؤلمة، بحيث باتت تمس مداخيل الحزب وأفراده ومؤسساته والجمهور العريض المستفيد من خدماته.

عاجلاً أم آجلاً، سيتوقف المدد الوارد من إيران. حاصرت الإجراءات الأمنية الدولية شبكات الحزب في العالم، لا سيما في أوروبا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. وعليه، فإن أسطورة التمويل الذاتي للحزب تنهار على وقع ضغوط متصاعدة ضد إيران بعامة و «حزب الله» بخاصة، بحيث ستتأكّل قدرة الحزب على الصمود وفق القواعد التي واكبت ولادته منذ الثمانينات.

وإذا ما استطاعت قدرات «حزب الله» المالية شراء الولاء العام من خلال إغداق النعم على البيئة الحاضنة، فإن تقلص تلك النعم قاد إلى تأكّل منطقي للجمهور المؤيد بلا شرط لـ «المقاومة»، وإلى ظهور أعراض علنية متبرمة من سلوك الحزب ومحسوبياته كما الشكوى الواسعة من ترهل الخدمات واهتراء البنى التحتية للمناطق المحسوبة عليه.

وإذا ما أظهرت الانتخابات الأخيرة تنامي ظواهر الاعتراض العلني ضد الحزب، فإن السجال الذي فجره النائب جميل السيد، والذي قيل أنه لا ينطق عن هوى، حول وجود «شيعة مقاومة» و «شيعة دولة»، كما غمزه من قناة حركة أمل وزعيمها نبيه بري وتحميلهما مسؤولية غياب التنمية في البقاع، يهدف إلى تبرئة الحزب من المسؤولية في هذا الصدد في الماضي كونه حالة شيعية «مقاومة»، كما تبرئته من أي مسؤولية في المستقبل وإيكال أمر ذلك إلى «الدولة» المكتشفة حديثاً في أدبيات الحزب.

وللمتأمل بمداولات تشكيل الحكومة اللبنانية أن يلحظ أن الحزب الحريص على توسيع حضوره وحضور حلفائه داخل النظام السياسي اللبناني، حريص في الوقت عينه على تجنب انفلات الأزمة الحالية على نحو يؤجل انخراطه داخل المفاصل السياسية والمالية والاقتصادية للبلد. يتوق الحزب إلى التظلل بشرعية لبنانية تقيه شرور العواصف الدولية المقبلة، كما يتوق، في الغياب المحتمل للمدد الإيراني، للغرف من موازنة لبنان ومداخيله، خصوصاً تلك التي تعدُ بها المجموعة الدولية منذ مؤتمر «سيدر» الشهير.

لم يعد «حزب الله» قادراً على تمويل «جمهور المقاومة». تُسقط النهايات السورية مسوغ تطوع الحزب لرد الإرهاب عن المراقد، وتُسقط المآلات الإيرانية عدّة الشغل التي كانت تستخدم لصناعة رأي عام موال في لبنان. باتت التنمية ومكافحة الفساد بيارق الحزب الجديد بعد اهتراء بيارقه السابقة. صار الشيعة الآخرون (شيعة الدولة) مسؤولين عن نكبة الشيعة في لبنان، وبات الدفاع عن حقوق الشيعة في لبنان هدفاً وليس وسيلة، لا سيما إذا ما قادت الضغوط الدولية غير المسبوقة نظام إيران إلى العودة إلى ما وراء حدود البلد. وفي هذا أن دوراً جديداً يرسمه الحزب لنفسه سيتنافس حكماً مع الدور الذي كان يلعبه حليفه داخل الثنائية الشيعية على ما يفسر فتوى جميل السيد بالنيل من «شيعة الدولة».

سيخطو «حزب الله» خطوات مفاجئة على طريق اللبننة الكاملة. لا يعارض الحزب تلبية مطالب القوات اللبنانية بما في ذلك منحه حقيبة سيادية حتى لو كانت وزارة الدفاع، ولا يصطدم الحزب مع الرئيس المكلف سعد الحريري وما يمثله من امتدادات إقليمية ودولية، ويتبرع الحزب بـ «تخليص» لبنان من عبء اللاجئين السوريين، ولن يصطدم الحزب مع توصيات شركة ماكينزي الأميركية بتشريع زراعة الحشيش في لبنان. على هذا، ينخرط الحزب داخل لبنان النفط ولبنان الحشيش على ما سيطرح أسئلة لاحقة حول لزومية فائض السلاح في جعبته.