&محمد بدرالدين زايد&&

رغم مرور بعض الوقت على قرار الرئيس الأميركي ترامب، أو لنقل تويتته، بالانسحاب من سورية، فإن الجدل الداخلي الأميركي والدولي لم يتوقف، وفي الحقيقة أن هذا القرار ودلالاته لا تنفصل عن مجمل أحوال السياسة الأميركية الراهنة، ولا عن مستقبل التحولات الدولية الجارية، ربما كان الغريب هو اندهاش البعض المبالغ فيه من هذا القرار، رغم أن الرجل سبق أن صرح بهذا خلال حملته الانتخابية وبعدها، وعلى رغم أيضاً من أن الرجل التزم أو سعى بقوة نحو تنفيذ كل وعوده الانتخابية بكل شطحات بعضها.


وقد أدى القرار على الفور إلى إستقالة وزير الدفاع ماتيس، وبشكل يمكن اعتباره أشد مظاهر انتقاد الرئيس من الدائرة المقربة منه أو التي كانت كذلك، وأثار هذا استياء داخلياً واسعاً تجاوز الأجهزة التنفيذية المختلفة إلى الأوساط التشريعية والرأي العام دفع ترامب إلى إقالة ماتيس قبل موعد سريان استقالته لما اعتبره أنه سبب له إحراجاً واسعاً، ولكي يكتمل الإلتباس وبعد تصريحات متضاربة حول احتمال التأجيل، ومع تصاعد ضغوط أجهزة الدولة من دفاع وخارجية واستخباراتية لجأ ترامب إلى تهديد تركيا بتدميرها اقتصادياً إذا استهدفت الأكراد، وهو ما لم يمنعه من إجراء حديث تليفوني عقب ذلك مع أردوغان ليصدر بياناً على قدر واضح من الغموض يكاد يشير إلى أن كل طرف قد سجل مواقفه، دون وضوح لموقف الطرف الآخر من هذه المطالب، ولم يفت وزير الخارجية التركي التصريح بأن تهديدات ترامب الحادة لبلاده تركيا كانت تستهدف الضغوط الداخلية الأميركية بالأساس، والآن تدور التفاعلات المعقدة حول ترتيبات خروج هذه القوات، وأوضاع القوات الحليفة كتلك الفرنسية، كما يتردد بقوة مسألة إقامة منطقة عازلة آمنة تركية، ويبدي الأكراد رفضهم لهذا في وسط هدوء نسبي من أطراف الأزمة الرئيسيين أي روسيا وإيران وحتى النظام السوري، والأخطر من كل هذه التطورات السابقة، أنباء عن عودة فصائل التشدد بقيادة هيئة تحرير الشام (النصرة سابقاً) في التوسع في مساحات واسعة من ريف محافظات حلب وأدلب وحماة، ونعود لهذا التطور المهم.

طبيعي أن تكون أبرز الدلالات ومظاهر الاستياء الأميركي الداخلية، وكذا من حلفاء واشنطن أن الرجل يدير سياسة الدولة العظمى الخارجية عبر تويتر ووسائل التواصل الاجتماعي، ولا يؤمن بالمؤسسات ولا بالتشاور والتنسيق مع الحلفاء، وفي الواقع أن هذه الانتقادات تحتاج إلى بعض التمحص، فالرجل صرح بهذا في حملته الانتخابية وبعدها، ومع ذلك حصل على الفوز في الانتخابات الرئاسية، والرجل ناقش هذه الملفات وغيرها مع حلفائه الغربيين والإقليميين في كثير من اللقاءات منذ وصوله للرئاسة، مثلما ناقش الانسحاب من اتفاقية باريس للتغير المناخي، فلا هو أقنع أحداً في العالم بملاءمة الخروج من هذه الاتفاقية، ولا هو اقتنع بوجهة نظر الأطراف التي دعته إلى التريث والحفاظ على الاتفاقية، وفي الحالة الأخيرة التي ناقشناها سابقاً رفض ترامب تقريراً شاملاً وموثقاً من كبار علماء بلاده الحكوميين مدعومين بمؤسسات الدولة الأميركية كلها، فلا هو اقتنع، وبالطبع ليس من الممكن أن يقنع كل هؤلاء، الشيء نفسه بالنسبة للخروج من الاتفاق النووي الإيراني وكذا للانسحاب من سورية في قرار اعتبرته أجهزة الدولة الأميركية والحلفاء الغربيين تخلياً عن الورقة الأخيرة لواشنطن والغرب في الملف السوري، كما أنها تخلٍ بشع عن الحليف الكردي الذي احتضنته واشنطن أساساً ومنذ عقود في محاولتها إعادة صياغة الخريطة الإقليمية أو ابتزاز أطراف المسألة الكردية، والأخطر من كل هذا أنها تسلم هذه المنطقة لتركيا وداعش الذي يستخدم الغرب الحرب ضدها كأداة للتواجد في الأزمة وليس لقتالها والقضاء عليها بشكل رئيس، ولكي نستكمل هذا البعد علينا أن نذكر أن الرجل انتقد مؤسسات الدولة الأميركية خلال الحملة الانتخابية، كما انتقد ما اعتبره سلبية حلفاء بلاده عموماً والأوروبيين خصوصاً واعتمادها على بلاده للدفاع عنها ولم يبد في أي وقت احتراماً لهؤلاء الحلفاء.

وإذا أردنا أن نتوقف عند ما يعكس توجهات هذا الرجل الفعلية، فهي تهديده لتركيا بتدميرها اقتصادياً إذا استهدفت الأكراد، فالأساس الذي يتضمن قدراً من المنطق الذي يستحق نقاشاً متعمقاً أن ترامب لا يؤمن بفعالية الأداة العسكرية، ليس فقط لكلفتها إقتصادياً وداخلياً، وإنما لأنني أظن أن الرجل مثل كثيرين، وأنا منهم، يرون أن غالبية تجارب الولايات المتحدة العسكرية فيما بعد الحرب العالمية الثانية كانت فاشلة وتكاد لم تحقق أي نجاح يذكر. هنا ترامب كأحد أنجح رجال الأعمال في بلاده والعالم يفكر بطريقة عملية براغماتية في سبل يحقق بها أهدافه، ويمكن أن تساعد في تحسين شعبيته ووضعه الداخلي الذي يواجه تحديات صعبة لا يمكن تجاهلها. ولكن هل هذا الرهان سليم؟ بمعنى هل كلفة قوات خاصة في حدود الألفين تحقق لواشنطن أدواراً أبرزها الحضور والفيتو على المسألة السورية، وضمان أخذها في الاعتبار في أي ترتيبات إقليمية، فضلاً عن مراقبة الأوضاع الإقليمية كلها؟ هنا لا أستطيع القول إن هذا الرهان هو الأصوب للسياسة الأميركية، وإن كان قد يكون الأفضل لسورية مستقبلياً، وهو حديث آخر يتضمن كثيراً من الأبعاد والمراحل. وعموماً فإن الموقف الأميركي بتأثير بعض الضغوط الداخلية، وقليل من تلك الخارجية خصوصاً إسرائيل التي يعنيها أمران: الأول هو ألا تكون هناك تداعيات لهذا القرار لصالح إيران، وثانيها أن تكون قد أعطت الانطباع للأكراد، التي تحتفظ معهم بعلاقة هادئة متفاوتة النشاط، بأنها تدخلت لحمايتهم عندما تخاذل الجميع عن ذلك، وفي النهاية لأن ترامب مازال يريد تحقيق المصالح والأهداف الأميركية نفسها التي تم بمقتضاها نشر هذه القوات فإن هناك مخاضاً صعباً لتنفيذ هذا القرار، وقد يستغرق بعض الوقت لحين إيجاد صيغة مع تركيا تضمن عدم تصفية الفصائل الكردية أو تجميد مرحلي للأمور، بحيث تتم تسوية المسألة الكردية ضمن المسألة السورية وبشكل مقبول للدول الأطراف في التواجد الكردي.

المهم مما عرضناه سابقاً أن قرار ترامب يتسق مع رؤية سياسية محددة، ضمن أبعادها الأكبر التركيز على المواجهة الأكبر مع الصين اقتصادياً، ورغم كل ما تتضمنه قرارات ترامب من إعادة نشر قوات أميركية بشكل مختلف، فضمن أبعاد هذه الرؤية أنها ليست عسكرية فذلك لم يكن وارداً في السابق ولا في المستقبل، وإنما الأدوات إقتصادية لمحاولة منع التحولات نحو عالم تنتزع فيه الصين من واشنطن مركز الصدارة، وفي الواقع أن السياسات الأميركية عبر العقدين السابقين كانت محاولة استباق هذه التحولات عبر استراتيجيات مختلفة، كلها فشلت قبل ترامب الذي يتصور الآن أنه قادر على النجاح، وهو أمر أرى فرص حدوثه بعيدة وأكثر صعوبة من ذي قبل. ونعود إلى سوريه في النهاية، هنا نلاحظ أن الشواهد وأهمها عودة الفصائل المتشددة للتحرك العسكري تشير إلى موجة تصعيد عسكري واضح في المستقبل القريب للتعامل مع تبعات الانسحاب الأميركي من ناحية ومن ناحية أخرى عدم تنفيذ تركيا التزاماتها لروسيا بتقليص الفصائل المسلحة، موجة تصعيد قد تقترب بنا من تسويات سياسية أصبحت أكثر إمكانية بعد الانسحاب الأميركي ما لم تجبر التطورات واشنطن على تأجيل قرارها للمشاركة في إنتاج هذه الترتيبات.