&فتحــى محمــود

&

فى التراث الشعبى اللبنانى مثل شهير اسمه «حكاية أبريق الزيت» يقال دائما فى المواقف التى يكثر فيها الكلام المستمر لدرجة الملل الشديد دون الوصول إلى نتيجة محددة، وحين تؤدى الأسئلة إلى أسئلة جديدة، وتستمر فى حلقة مفرغة دون الوصول إلى إجابة.

&وأصل هذا المثل يعود إلى حكايات ماقبل النوم، عندما تحاول الأم أو الجدة استنفاد طاقات الأطفال, الذين يستعصى عليهم النوم, ليناموا بسرعة، فعندما تراهم مازالوا مستيقظين بعد أن حكت لهم عدة حواديت، تسألهم: هل أحكى لكم حكاية أبريق الزيت، فإذا قالوا نعم، ترد عليهم: أم لا تريدون حكاية أبريق الزيت، فإذا ردوا بلا، تسألهم مرة أخري: أم أحكى لكم حكاية أبريق الزيت؟ وهكذا تظل الأم أو الجدة تلاعب الأطفال بحلقة مفرغة ومتكررة من الأسئلة عن حكاية أبريق الزيت، حتى يصيبهم الملل وتستنفد قواهم فيخلدون للنوم.

هذا المثل يتذكره اللبنانيون كثيرا عند تشكيل الحكومات المتعاقبة، ويستخدمون بديلا عنه جملة أصبحت من أساسيات الثقافة السياسية فى لبنان وهى «تدوير الزوايا»، وهو مصطلح يمتلك حقوق الملكية الفكرية له نبيه برى زعيم حركة أمل ورئيس مجلس النواب، ويستخدم دائما عند تعقد المواقف، سواء كان الموقف من تشكيل حكومة جديدة أو إسقاط حكومة حالية أو مشكلة من المشكلات المستمرة فى لبنان والتى لا تنتهى أبدا. والمقصود الحقيقى من مصطلح «تدوير الزوايا» هو محاولة تخطى الخلافات مؤقتا والدوران حولها دون التوصل إلى حل حقيقى لها، وبالتالى تظل الخلافات موجودة ومستمرة وقابلة للانفجار فى أى وقت، ولكن يقبل الجميع بغض الطرف عنها مؤقتا بعد أن تم استنفاد قواهم فى تكرار الحديث عنها لفترة طويلة دون جديد. وهكذا كان مصطلح «تدوير الزوايا» هو كلمة السر فى ظهور الحكومة اللبنانية الجديدة للنور، بعد تعطل تشكيلها منذ تكليف زعيم تيار المستقبل سعد الحريرى بتشكيلها فى 24 مايو الماضي، بسبب النكاية السياسية بالدرجة الأولي، والخلافات حول تفاصيل عديدة مثل الحصص الوزارية لكل طرف وحجم ونوعية الحقائب الوزارية، ووصل الأمر قبل أيام من تشكيل الحكومة إلى إجراء مفاوضات مكثفة بين بعض الأطراف السياسية والطائفية الفاعلة حول تبادل للحقائب الوزارية حتى تحصل كل منها على الوزارة التى تريدها لأسباب بعضها مناطقى وبعضها طائفى وبعضها شخصي. إلى جانب الخلاف المعلن حول تمثيل النواب السنة المستقلين، فقد أفرزت الانتخابات النيابية الأخيرة واقعا جديدا فى لبنان، تمثّل بفوز 10 نواب سنة من خارج تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري، وذلك لأول مرة منذ عام 2005، ويحاول هؤلاء تشكيل نواة معارضة سنية، قادرة على فرض وجودها على المشهد السياسي، وتمثيلها فى الحكومة، لكن الحريرى يرفض منحهم مقعدا وزاريا من حصته، وقد انضم أربعة من هؤلاء النواب إلى بعض الكتل السياسية أو أكدوا استقلاليتهم مع دعمهم لزعامة الحريري، بينما شكل الستة الباقون وأبرزهم وزير الدفاع الأسبق عبد الرحيم مراد كتلة النواب السنة المستقلين وأصروا على تعيين أحدهم فى الحكومة ومنحهم حزب الله وحلفاؤه دعما كبيرا وتعطل تشكيل الحكومة لفترة لهذا السبب، وتم حل المشكلة بتعيين نجل عبد الرحيم مراد وزيرا.

والحقيقة الأخرى التى لابد من ذكرها بصراحة أن تشكيل الحكومات اللبنانية يخضع دائما لضغوطات خارجية، وأن الحكومة اللبنانية الأخيرة لم تكن لترى النور بهذا التشكيل دون ضوء أخضر من ثلاث قوى خارجية أساسية هى إيران والسعودية وفرنسا، سواء بشكل مباشر أو عبر حلفائها المحليين. لكن الاختبار الحقيقى أمام الحكومة الجديدة هو البيان الوزارى الذى ستتقدم به إلى مجلس النواب، فكثير من الحكومات اللبنانية ظلت مشلولة لفترة بعد تشكيلها بسبب تعثر الاتفاق على صياغة مشتركة للبيان الوزارى يحظى برضاء جميع الأطراف، إلا أن كل المؤشرات تدل على أن بيان الحكومة الحالية لن يتضمن أى تغييرات جوهرية عن بيان الحكومة السابقة، وخاصة فى النقاط الخلافية مثل موضوع النأى بالنفس عن الصراعات الخارجية وسلاح حزب الله فى مواجهة اسرائيل، تجنبا لمزيد من الخلافات وتضييع الوقت. ولذلك فمن الأرجح أن بيان الحكومة الجديدة سيكرر فقرتين مهمتين حول موضوعى النأى بالنفس وإسرائيل، تقول الأولي: إن الحكومة تكرر التزامها بما جاء فى خطاب القسم لرئيس الجمهورية من ان لبنان السائر بين الألغام لا يزال بمنأى عن النار المشتعلة حوله فى المنطقة، ومن هنا ضرورة ابتعاد لبنان عن الصراعات الخارجية، ملتزمين احترام ميثاق جامعة الدول العربية. وتقول الثانية: تؤكد الحكومة واجب الدولة وسعيها لتحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبنانى من قرية الغجر، وذلك بشتى الوسائل المشروعة، مع تأكيد الحق للمواطنين اللبنانيين فى المقاومة للاحتلال الاسرائيلي. وبذلك تخرج الحكومة من فخ الخلاف حول هذين الموضوعين الأساسيين. لكن لأن لبنان هى لبنان فى كل الأحوال، مصدر الجديد دائما، فقد قدمت مفاجأة فى الحكومة الجديدة بتعيين أول سيدة فى منصب وزير الداخلية، وهى مفاجأة تحسب لسعد الحريرى الذى سبق أن قام بتعيين هذه السيدة ـ ريا الحسن ـ وزيرا للمالية عام 2009، وهى تنتمى إلى تيار المستقبل. وقد يتساءل البعض كيف لسيدة قادمة من عالم المال والأرقام، أن تتولى منصب وزير الداخلية وهى ليست لها علاقة بالأمن أو القانون أو تفكيك شبكات الإرهاب؟

والحقيقة أن منصب الوزير فى لبنان هو منصب سياسي، يقوم صاحبه بالإشراف على تنفيذ برنامج الحكومة فيما يخص وزارته، بينما هناك فريق من كبار الموظفين على رأسهم المدير العام للوزارة بعملية التنفيذ، ووزارة الداخلية اللبنانية لها هيكل متخصص، وجهازان مهمان هما الأمن الداخلى والأمن العام، ولكل منهما مدير عام، وكلاهما مشهود له بالكفاءة فى كشف الجرائم والخلايا الإرهابية بالتعاون مع جهاز مخابرات الجيش اللبناني، لذلك لن تكون هناك مشكلة أمام ريا الحسن فى القيام بدورها كوزير للداخلية. وبتشكيل الحكومة الجديدة والاتفاق المتوقع على البيان الوزاري، يأمل الجميع أن يشهد لبنان صيفا سياحيا مزدهرا هذا العام، يشكل رافعة قوية للاقتصاد اللبناني.