&أمين الزاوي

النكتة في المجتمع الجزائري الجديد بينت أن الوعي الاجتماعي والسياسي في منعطف تاريخي مفصلي، وأنها التعبير عن سقوط ثقافة "الخوف".

&

لحظة وعي

حين تندلق ألسنة العامة بالنكت، فاعلم أن هناك لحظة وعي سياسية أو اجتماعية أو دينية تاريخية قد بزغت، وأن الناس قد بدأوا يميزون بين هذا الخطاب وذاك، وبين هذا الرأي وذاك، وأن جزءا مهما من الضباب الأيديولوجي الواهم قد بدأ ينجلي عن عقول العامة والنخب أيضا.

وكما أن النكتة يبدعها الوعي الجماعي، فهي بدورها أيضا تساهم في صناعة الوعي بطريقة سلسة ودون دروس وعظ منفرة. والمجتمع الذي ينتج النكتة مجتمع ذكي ومقاوم.

منذ بدأ الحراك الجزائري الرافض لترشح الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة، وهو على ما هو عليه من صحة منهارة وإخفاق لنظامه السياسي الذي يقود البلاد منذ عشرين سنة، ما يعادل مدة خمس ولايات رئاسية أميريكية!! نمت وبسرعة مذهلة ظاهرة ثقافية صحية فارقة، وهي إبداع النكت المناهضة والمنددة بالوضع المتردي القائم، تداولها الشارع في المظاهرات ويتم تناقلها أيضا عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وهي في مجملها تعبر بطريقة ساخرة عن قطيعة نهائية ما بين النظام والشارع، وهي رد واضح أيضا على تجار السياسة والدين.

انطلقت النكتة الجزائرية أصلا من السخرية من ترشيح “صورة وإطار” الرئيس، دون أن يكون للمرشح أي وجود فيزيقي حقيقي، وهي رفض لثقافة “عبادة الشخص” التي أنتجها هذا النظام السياسي.

كما قاومت النكتة أيضا تجار الدين، أي الميليشيات السياسية المتخفية في الخطاب الديني، حيث قاطع الكثير من المصلين خطب الجمعة التي دعا بعض الأئمة فيها إلى “عدم الخروج عن طاعة الحاكم، لأن في ذلك خروجا عن إرادة الله”!! وقد استهزأ الشارع من هذه الخطب بالقول “نحن لم نخرج عن الحاكم إنما خرجنا للبحث عنه!!”، وهم في ذلك يشيرون إلى غياب الرئيس الذي لم يكلم الجزائريين منذ سبع سنوات، ولا يعرف له مكان اليوم.

وجاءت النكتة قوية أيضا في الاستهزاء بمهزلة بعض المرشحين للرئاسيات، ومن بينهم ميكانيكي وجد نفسه في لعبة مسرحية عجيبة، فقد جيء به بديلا عن مرشح آخر يحمل نفس الاسم لأن الأول لا تتوفر فيه شروط الترشح، وقد امتلأت شبكة التواصل الاجتماعي بنكت حوله، خاصة في ما يتصل بالتصريح بممتلكاته الخاصة، وقد عبر المواطنون عن هذه الحالة بما يلي “المترشح لا يملك سوى دولابين ومفك أميركي وكريك ومنفاخ العجلات”، وفي نفس السياق علق الشارع على تصريح الرئيس بممتلكاته والذي أقر فيه بأنه لا يملك سوى مسكنين فرديين وشقة بالعاصمة بقولهم “الرئيس لا يملك سوى قطعة أرض بمساحة مليونين وثلاثمئة واثنين وثمانين ألف كيلومتر مربع” (وهي مساحة الجزائر)!!

كما تناقل الشارع نكت في شكل مكالمات هاتفية موجهة إلى المستشفى الذي يرقد به الرئيس في جنيف ومن أمثلة ذلك “مواطن يهاتف المستشفى ليطلب من الرئيس دفع ثمن أربع بيزات وإلا لن تصله الخامسة” وفي ذلك إشارة إلى الولاية الخامسة!! وعرّت النكتة رجال الأعمال الفاسدين الذين ريّشوا البلاد، وأيضا إعلام السلطة وبعض القوات الخاصة.

إن النكتة في المجتمع الجزائري الجديد بينت أن الوعي الاجتماعي والسياسي في منعطف تاريخي مفصلي، وأنها التعبير عن سقوط ثقافة “الخوف”، وصورة عن التحرر من “دين السلطة”، وهي مقاومة لثقافة الطاعة التي يريد النظام تكريسها في المجتمع الجزائري، فإذا كانت “الأغنية السياسية الساخرة” أيام الاستعمار الفرنسي مع علالو وقسنطيني وبشطارزي عبرت عن رسالة للحرية.. فقد أبدع الشارع الجزائري اليوم النكتة القوية المقاومة للانهيار السياسي والأخلاقي.&