& علي العميم

&

في نص كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» الأصلي الذي كتبه سيد قطب قبل ذهابه في بعثة لأميركا، كان يواد المسيحية، ويواد الكنيسة لسبب شخصي انتهازي، وفي نص الكتاب المعدل قلب للمسيحية وللكنيسة ظهر المجن، لسبب شخصي من نوع آخر، أبرز شق فيه ما باح به صديقه وديع فلسطين في كتابه «وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره»، إذ قال في بوحه: «الذين رتبوا له هذه البعثة اختاروا له أن يذهب إلى سان فرانسسكو، معقل الاضطهاد ضد الملونين في ذلك الوقت. وكانت جميع ملامح سيد قطب، بعينيه الجاحظتين وشفتيه الغليظتين وشعره الكث (يقصد وديع أن شعره كث مجعّد) وقامته القصيرة وبشرته السمراء ترشحه للاضطهاد في المطاعم والمشارب ووسائل النقل وما إليها. فامتلأت رسائله إلى أصدقائه وأنا منهم بالشكوى المرة من المعاملة غير الكريمة التي كان يلقاها في كل خطوة من خطواته في سان فرانسسكو».


وفي حفل تكريم الوجيه وديع فلسطين في اثنينية عبد المقصود خوجه بجدة بتاريخ 29/ 4/ 2002، سئل وديع فلسطين عن سيد قطب الأديب وكان مما أجاب به شفاهة - مؤكداً على ما كان قد باح به سلفاً، أول مرة في مقال منشور له في جريدة «الحياة»: «عندما كان يراسلني من أميركا كان يشكو من اضطهاد لأن ملامحه ملامح زنجي، وكانت الفترة التي قضاها في أميركا في سان فرانسسكو كان الاضطهاد هناك للزنوج في ذروته، فضايقوهم كثيراً، فكان يشكو من هذا، ولعل هذا كان السبب في أنه لما عاد كتب 3 مقالات أو 4 مقالات في مجلة (الرسالة) محا فيها الحضارة الأميركية محواً تاماً».
ومما له صلة بحديثنا، ثمة حكايتان تقدمان رأيين متضاربين عن موقف سيد قطب من غير المسلمين. الحكاية الأولى رواها وديع فلسطين، يرجع تاريخها إلى عام 1947. وللتذكير فإن هذا العام كان من ضمن الأعوام التي كان سيد قطب يعمل فيها على كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام». يقول وديع فلسطين في هذه الحكاية: «وعندما استقال يوسف شحاته من عمله في (دار المعارف)، واتخذ لنفسه دار نشر جديدة أطلق عليها اسم (العالم العربي)، رغب في إصدار مجلة شهرية تحمل اسم (العالم العربي)، فعهد إلى سيد قطب في رياسة تحريرها. وقام سيد قطب بتوجيه رسام المجلة لكي يصمم غلافها حاملاً رسماً لمسجد إلى جوار كنيسة وكنيس. وقال لي وقتها: إن هذا آية على التسامح الديني».
الحكاية الأخرى ذكرها نجيب محفوظ في روايته «المرايا»، وذلك عندما تحدث عن سيد قطب، وأعطاه اسم عبد الوهاب إسماعيل. يقول عنه في هذه الحكاية: «وعلى الرغم من أن عبد الوهاب إسماعيل لم يكن يتكلم في الدين، وعلى الرغم من تظاهره بالعصرية في أفكاره وملبسه وأخذه بالأساليب الإفرنجية في الطعام وارتياد دور السينما، فإن تأثره بالدين وإيمانه، بل وتعصبه لم تخف(!) عليَّ. أذكر أن كاتباً قبطياً شاباً أهداه كتاباً له يحوي مقالات في النقد والاجتماع، فحدثني عنه ذات يوم في مقهى الفيشاوي، فقال: إنه ذكي مطلع حساس وذو أصالة في الأسلوب والتفكير. فسألته ببراءة وكنت مغرماً بالكاتب: متى تكتب عنه؟ فابتسم ابتسامة غامضة، وقال: انتظر وليطولن انتظارك!


ماذا تعني؟ فقال بحزم: لن أشترك في بناء قلم سيعمل غداً على تجريح تراثنا الإسلامي بكل السبل الملتوية. فتساءلت بامتعاض: أأفهم من ذلك أنك متعصب؟ فقال باستهانة: لا تهددني بالإكليشيهات فإنها لا تهزني.
- يؤسفني موقفك.
- لا فائدة من مناقشة وفدي في هذا الموضوع، وقد كنت وفدياً ذات يوم، ولكني أصارحك بأنه لا ثقة لي في أتباع الأديان الأخرى!
وقد كان حقاً وفدياً، ثم انشق على الوفد وراء الدكتور أحمد ماهر وكان عظيم الإعجاب به، ورُقي في عهد السعديين إلى وظيفة مفتش».
لا توجد في الحكاية التي ذكرها نجيب محفوظ قرينة تشير إلى متى حصلت الحكاية، لكن نظراً إلى أن علاقته بالناقد الأدبي سيد قطب توثقت في منتصف الأربعينات، فقد تكون الحكاية حصلت في تلك السنوات، أو أنها قد حصلت في سنة 1947، فكما يلاحظ علي شلش في كتابه «التمرد على الأدب: دراسة في تجربة سيد قطب»، أن «كتاباته النقدية بعد خريف 1945، الذي شكا فيه من الإخفاق النقدي، أخذت في التناقص، حتى بلغت نحو 10 مقالات عام 1945، ثم ارتفعت إلى نحو 20 مقالة عام 1946، وهبطت مرة أخرى عام 1947، إلى نحو 5 مقالات عام 1946، وهبطت مرة أخرى عام 1947 إلى نحو 5 مقالات، ثم 4 مقالات عام 1948، فمقالتان عام 1949، ثم لا شيء ابتداء من عام 1950».


هناك معلومة أوردها نجيب محفوظ في الحكاية التي ذكرها هي غير دقيقة. وهي أن سيد قطب انشق على الوفد وراء الدكتور أحمد ماهر، وقد تكون هذه المعلومة غير الدقيقة من ضمن التعديلات التي أدخلها على حياة سيد قطب حتى لا يظهر كأنه يترجم لحياته حرفياً. والصحيح أنه ترك حزب الوفد لمّا اختلف العقاد مع رئيسه مصطفى النحاس في منتصف الثلاثينات، ولما انضم العقاد إلى حزب السعديين المنشق على حزب الوفد، انضم سيد قطب معه إلى هذا الحزب. وهذه صورة من ضمن صور تبعية سيد قطب الدونية لأستاذه وشيخه عباس محمود العقاد.
في أي الرأيين، كان سيد قطب صادقاً في التعبير عن موقفه الحقيقي من أصحاب الديانات الأخرى، وخصوصاً المسيحيين، في الحكاية الأولى أم في الحكاية الأخرى؟
هنا لا بد أن نوضح أن وديع فلسطين مسيحي قبطي، رغم أنه غير معني بديانته وقضاياها في بلده مصر. وهو من المثقفين الأقباط العلمانيين الذين لا توجد عندهم ما يسميه المثقفون المصريون المسلمون العلمانيون «الحتة القبطية».
ومالك مجلة «العالم العربي»، ومدير إدارتها يوسف شحاته، كذلك هو مسيحي قبطي. وكذلك هو - كما تنبئنا سيرة مجلته ودار نشره التي تحمل الاسم نفسه - غير مهجوس ظاهرياً وضمنياً بما سماه المثقفون المصريون المسلمون العلمانيون «الحتة العلمانية».
فما قاله سيد قطب لوديع فلسطين المسيحي كان من قبيل التظاهر بخلاف ما يبطن. فهو لا يجرؤ أن يصرح أمامه بما صرح به لنجيب محفوظ المسلم من تعصب ديني مذموم إزاء مسيحيي بلاده وإزاء المسيحيين عموماً. لأنه إن فعل ذلك سيكون فظاً وصفيقاً. هذا هو السبب الأول. أما السب الثاني، فلأنه كان في تلك السنوات يتكلف الموادة للمسيحية لكي ينجح أمر ابتعاثه المتعثر، لسبب فني أو بيروقراطي إلى أميركا سنة 1947 (من المفيد الرجوع إلى كتاب «بعثة سيد قطب: الوثائق الرسمية» لحلمي النمنم).
آفة سيد قطب كانت التصنع والتظاهر وادعاء المثالية والمناقبية والكذب. ولدي ذخيرة من أكاذيبه بعضها كتبت عنها، وبعضها الآخر لم أكتب عنها إلى الآن.
كاشف سيد قطب نجيب محفوظ بما يخفيه من تعصب ديني ليس لأنه مسلم فقط، فنجيب محفوظ زيادة على أنه مسلم كان لسيد قطب فضل عليه، فهو أول من كتب عنه، وكان محتفياً بتجربته الروائية ومتحمساً لها، وكان متبنياً له، وكان يتحدث إليه، حديث الأستاذ إلى التلميذ. وحين كاشف سيد قطب نجيب محفوظ بما يضمره من ضغينة وكراهية دينية للمسيحيين، كان مطمئناً أنه لن يذيعه للأسباب السابقة ولعلمه بشدة إعجابه به.


ومع أنه قد سبق لي أن تصفحت مجلة «العالم العربي»، فإنني لم أنتبه إلى الرسم الذي كلف سيد قطب رسام المجلة برسمه على غلافها، وبعد أن قرأت تلك المعلومة عند وديع فلسطين تأملت غلافها بتدقيق شديد، فوجدت - فعلاً - أسفل اسم المجلة من الجهة اليمنى رسماً لكنيس بجواره مسجد، وجوار المسجد كنيسة على خط متوازٍ لكن على نحو غير جلي! وفوق اسم المجلة من الجهة اليسرى رسم بارز للهلال!
الحق أنه بحسب مضمون تلك المجلة الأدبي والثقافي المعني بالشؤون العربية، لا معنى لذلك الشعار الديني المتكلف الذي يكاد لا يبين، ولا ثمة حاجة لرسم للهلال لأن المجلة ليست مجلة إسلامية دينية. إن المجلات ذات الأفق القومي العربي وكذلك الاتجاهات والأحزاب القومية العربية التي كان يعمل بها مسيحيون ومسلمون في المشرق العربي لم تجد أنها بحاجة إلى رفع شعار الوحدة بين الكنيسة والمسجد أو الصليب والهلال، فشعار كهذا كان سيعيدهم إلى المربع الديني. وإذا أمعنا النظر في شعار سيد قطب الديني المتكلف، سنجد أنه استعادة خجولة ومتخفية لشعار حزب الوفد (الاتحاد بين الهلال والصليب)، وهو الحزب الذي تركه بإمعائية مع إضافة الكنيس اليهودي.


وبرأيي أن الشعار الديني المتكلف (كنيس ومسجد وكنيسة) على النحو الذي ظهر به يعبر عن أجندة شخصية لسيد قطب - وهي التي أومأت إليها في هذا المقال وفي المقال السابق - لكن بمداراة وتستر ونفاق. وأن جمعه بين الشعار الديني المتكلف وشعار الهلال يعبر عن ازدواجية موقفه واضطرابه وتناقضه. وللحديث بقية.

&