& ياسر الأنصارى

&لعل التبعية الإعلامية للخطاب اليورو أمريكى هى الملمح التاريخى لمشهد الإعلام العالمى، بما يعنيه من مسار رأسى من الشمال الثرى المتقدم إلى الجنوب الفقير النامى طوال القرن العشرين، فضلا عن حالة التدفق الإعلامى المحلى من المركز إلى الأطراف من العواصم إلى المدن، ومن المدن إلى القرى.

&ولطالما تعرض هذا المشهد للكثير من الدراسات والأفكار والمبادرات الداعية لإصلاحه، إلا أن ظهور الإعلام الرقمى وتطوره أحدث تغييرا جذريا فى منظومة الاتصال العالمية والمحلية، إذ انتهى بلا رجعة النموذج الاتصالى التقليدى الأحادى أو الدائرى على أحسن تقدير. إذ مكنت الثورة التكنولوجية كل فرد ليصبح مرسلا ومستقبلا فى آن واحد، بالإضافة إلى التفاعلية العالية بين المرسل والمستقبل، وتجاوز الإعلام الرقمى نموذج أيسبرج «جبل الثلج» الذى يشير إلى اختفاء الجانب الأكبر من كل من المرسل والمستقبل، إذ أصبح المستقبل تحت عين المرسل بصورة كبيرة إن لم تكن كاملة، بدءاً من عاداته وتقاليده ومستوى تعليمه، وأوجه إنفاقه، بل قد يتعدى ذلك إلى تحليل اتجاهاته الفكرية وميوله السياسية.

ولكن يظل السؤال المطروح هل سيؤثر هذا التطور التكنولوجى على مظاهر الاختلال فى النموذج الاتصالى على مستوى العالم، هل سيجعل النظام الاتصالى العالمى أكثر توازناً، وينعكس إيجابيا على منظومة الاتصال المحلى والإقليمى، كما بدا فى نهايات القرن العشرين، إلا أن قراءة المشهد الحالى تكشف عدة حقائق مخيبة للآمال، ويمكن إجمالها فى:

ــ احتكار الشركات الأمريكية شبكة الإنترنت التى أصبحت حكراً من قبيل مايكروسوفت وجوجل وفيسبوك وأمازون وأنتل وأبل وسيسكو وهوليت باكارد، وشركات عملاقة من شرق آسيا من قبيل سامسونج وهيتاشى وسونى وفوكسكون، وتزداد خطورة هذا الوضع إذا ما أخذنا فى الاعتبار أن القوانين الأمريكية تسمح للدولة بإكراه الشركات على تمكينها من التجسس على ما تقدم من خدمات وتخزن من معلومات ذات أهمية بالنسبة للأمن القومى. وتتجلى الخطورة الأكبر إذا ما أضفنا إلى ذلك أن أغلبية وسائل التخزين السحابى أمريكية فى معظمها، مما أعطى لوكالة المخابرات الأمريكية سيطرة شبه كاملة على المعلومات تهدد الأمن القومى، ومن ثم فالسيطرة الأمريكية على المعلومات ترسخ وضعية التبعية إلى الإعلام الأمريكى، وحتما ستؤدى إلى ضمور وسائل السيطرة المحلية المتمثلة فى التشريعات المحلية وأدوات الرقابة، إذ ستصبح عاجزة أمام التطور التكنولوجى الهائل، ومن ثم تمسى التبعية المركبة التى كان يعانى منها الخطاب الإعلامى للسلطات المحلية والخطاب العالمى طوال القرن العشرين- والذى دللت عليه الكثير من الدراسات العلمية ومنها أطروحتى للدكتوراه سنة2011 عن حقوق الإنسان فى الخطاب الصحفى العربى- طموحا لن نستطيع الحفاظ عليه، لصالح الخطاب الغربى المعولم.

ــ النمو الاخطبوطى لوكالات الإعلان الرقمية التى يقع معظمها داخل الولايات المتحدة الأمريكية والتى أصبحت تستحوذ على النصيب الأكبر من الإنفاق الإعلانى بفضل حجم المعلومات والبيانات وتفضيلات المستهلكين حول العالم، والقدرة على استهداف الجماهير بشكل أكثر دقة والتفاعل معها مباشرة فى أسرع وقت، مما يهدد الصناعات المحلية وحركة التجارة الداخلية، وانعكاس ذلك على السوق الإعلانية فى العالم العربى بصورة مذهلة مما يصب فى صالح الشبكة العنكبوتية والشركات المسيطرة عليها ووكالات الإعلان العالمية، الذى تتضافر مصالحها مع استقرار البنية السياسية والإعلامية للنظام الدولى الراهن تكريسا لحالة التبعية الذى بات الإعلام وصناعة الإعلان أحد أهم أسلحته الإستراتيجية، وهو ما كشفته أحداث مؤامرات الربيع العربى، وعمليات التجسس الواسعة النطاق التى قامت بها وكالة الأمن القومى الأمريكى وتم فضحها فى عهد الرئيس أوباما. ويتبقى الرهان المستقبلى على نجاح أوروبا وألمانيا تحديدا فى كسر الاحتكار الأمريكى لبنية نظام الإعلام الدولى من خلال تطويرها للبنية التحتية للاتصال.

ويقع على جامعة الدول العربية باعتبارها قاطرة العمل الإقليمى، من خلال فاعلياتها المستمرة لمكافحة الإرهاب عام 2019 العبء الأكبر فى ضرورة حث الدول العربية على تبنى إستراتيجية إعلامية موحدة، تقوم على:

ــ تمويل ضخم للبنية التحتية للنظام الاتصالى، أو على الأقل بتوفير معاملات أمان تحافظ على الأمن القومى، الاستثمار فى بحوث وتكنولوجيا الاتصال مما يعزز من قدرة عالمنا العربى على التفاعل سلبيا أو إيجابيا مع التكنولوجيا، وليس استهلاكا فقط.

ــ التدريب العالى للكوادر الإعلامية على استخدام التطور التكنولوجى، وأثره على تطور شكل ومحتوى الرسالة الإعلامية، بما يضمن احتفاظ الإعلام العربى بجماهيره العريضة حفاظا على الأمن الوطنى.

ــ إطلاق بوابة عربية شاملة تخاطب القارئ العربى فى العالم كله.

ــ إطلاق بوابات عالمية بلغات مختلفة لايجاد رأى عام عالمى مؤازر لقضايانا.

ــ تبنى برامج تدريبية للتربية الإعلامية تمكن القارئ من التفاعل الإيجابى مع المواد الإعلامية وفرز الغث من السمين.

ــ بدون هذا المثلث المتساوى الأضلاع استثمارات فى البنية التحتية للاتصال، وتدريب وتطوير مناهج الإعلام، والتربية الإعلامية للمتلقى يظل أمننا القومى فى مهب الريح.