& حسام عيتاني

&... «وعندما ذهب محامي الناشطين الأربعة إلى مركز الشرطة للسؤال عن سبب اعتقالهم، اعتقل هو الآخر». هذه الجملة الواردة في تقرير صحافي عن الاعتقالات التي قامت بها أجهزة حركة «حماس» في قطاع غزة بعد تظاهرات الأسبوع الماضي، وشملت أربعة أعضاء في جمعيات حقوق الإنسان نزلوا إلى الشارع لتسجيل الأحداث، تعيد إلى الذاكرة الأسلوب الذي تتعامل به السلطات العربية وخصوصاً في بلدان «الممانعة»، مع أي مطلب ولو كان شديد البعد عن أي هدف سياسي، مثل الاحتجاج على زيادة حكومة «حماس» الأسعار والضرائب على سكان غزة المحاصرين.&


اعتقال المحامي الباحث عن موكليه، عينة تتكرر في طول العالم العربي وعرضه على الاستهتار بالقانون، وقد تبدو الممارسة هذه أصغر مشكلات مليوني فلسطيني يعيشون المأزق الذي يعاني منه القطاع والذي ساهمت «حماس» والسلطة وإسرائيل وأطراف أخرى في الوصول إليه والغرق فيه.
أما المشاكل الأكبر فتظهر على شكل العلاقة بين حكومة «حماس» ومنظومتها الأمنية من جهة وبين اهالي القطاع من جهة ثانية، إذ أن هذه العلاقة تتسم بإشكالية مربكة للطرفين. من ناحية، تعجز الحركة الممسكة بالسلطة عن وضع أي تصور لتخفيف جوانب المعاناة الإنسانية المتعددة الوجوه بسبب الحصار الإسرائيلي أولاً وبسبب انعدام أفق المصالحة الوطنية الفلسطينية والطبيعة التسلطية للتنظيم الذي يرفض الاعتراف بقصوره وبعجزه عن إدارة القطاع الذي استولى عسكرياً عليه بعد صدام مع حركة «فتح» في 2007، وبات منذ ذلك الحين في حال تشبه حال دول «الممانعة» في صراعها مع إسرائيل: لا قدرة على خوض مواجهة عسكرية مفتوحة مع الاحتلال ولا مشروع تنموي يساهم في تعبئة الساحة الداخلية في المقاومة المفترضة وتشكيك عريض في شرعية سلطة هذا التنظيم على القطاع.&


غني عن القول إن الواقع المزري في غزة تجري تغطيته بشعارات كبيرة سُمعت في الدول العربية حتى عندما كانت طائرات الميغ والسوخوي تقصف الأفران والمستشفيات في سوريا وغيرها: «فلسطين هي البوصلة» و«لا صوت يعلو على صوت المعركة» وما يصب في هذا المجرى... لكن الواقع يقول شيئاً آخر، وهو أن من يريد الحفاظ على سلطته في زمن الحرب ضد إسرائيل - إذا أراد نقل الحرب من حيز الخيال إلى حيز الفعل - عليه في البدء أن يتحقق من تمثيله لشعبه ومن أن هذه الحرب هي فعلاً ما يحتاج إليه المواطنون المحاصرون في غزة وأن الصبر في مخيمات القطاع والبطالة بين شبابه وانسداد أبواب الأمل بحياة كريمة، أمور قد لا يعرفها من أنشأ مؤسساته ومكّن نفسه وجماعته السياسية بفضل أموال تأتي من الخارج.&
ناهيك عن أن المقاومة، في تعريف أول وأساسي لها، هي انعكاس لحاجة الشعب الواقع تحت الاحتلال إلى الحرية والكرامة. في حين نجد «المقاومين» أكثر انشغالاً بمطاردة خصومهم واعتقال معارضيهم وإسكات وسائل الإعلام والصحافيين، وتكديس أسلحة لا فائدة حقيقية لها إلا في إطار خدمة استراتيجية أجنبية لا تقيم وزناً كبيراً للمصالح المباشرة للشعب الفلسطيني في غزة.


مسألة الشرعية، سواء أطلق عليها وصف «الثورية» أم لا، لا تستثني حركات المقاومة المسلحة وهي قضية متحركة تتعرض يومياً وعلى مدار الساعة لإعادة تقييم أساسها الواقع وليس الشعار. وهذا من بداهات العمل السياسي في بيئة مثل البيئة الفلسطينية. وليس صحيحاً أن من قاتل المحتل مرة، حقّ له أن يكون محتلاً جديداً على شعبه إلى الأبد. ذلك أن ظروف الحياة تأتي بما يتعارض مع تصورات «المقاوم»، على النحو الذي رفض فيه البريطانيون ونستون تشرشل ما أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وبدأت مرحلة جديدة تتطلب إعادة البناء والاهتمام بالأوضاع التي خلفتها الحرب.
لذلك يصعب الجزم في مدى تمثيل أي فصيل مسلح لتطلعات الجمهور الذي يقول إنه يعبر عن مصالحه، حيث تغيب الآليات الديمقراطية في التعرف إلى اتجاهات الرأي العام وحيث ينغلق التنظيم «المقاوم» المسلح على نفسه في عالم من الحسابات والخطط والهواجس قد لا تعني الكثير بالنسبة إلى المواطن العادي، «موضوع» المقاومة الأول على ما يفترض «المقاومون».&
والحال أن ثمة ما يبعث على قلق عميق في ممارسات «حماس» في غزة ونظيرتها التي تقوم بها السلطة الوطنية في الضفة. قلق يربط بين تجاهل أسس التمثيل السياسي والشعبي وبناء الشرعية وبين مجمل الاجتماع السياسي العربي والسعي الدائم إلى تأييد الشرعية وإسنادها بالماضي فيما هي عملية مستمرة في الحاضر.