& &عبدالحق عزوزي

أصدر مؤخراً الكاتب اللبناني المعروف أمين معلوف، كتاباً قيّماً أسماه «غرق الحضارات»، عن دار النشر الفرنسية العريقة «كراسييه»، وأتى بأطروحة مغايرة لتلك التي جاء بها صامويل هنتنغتون بعد نهاية الحرب الباردة، والتي سماها نظرية صراع الحضارات. وبالرجوع إلى مفهوم الحضارة عند هنتنغتون، نرى أنه كان يحصرها في كيان مغلق وثابت لا يتحرك، وتتوفر على خصائص قارة تفصلها عن باقي الحضارات، وهذه الخصائص مرتبطة كل الارتباط بالثوابت اللغوية والتاريخية والتراثية والمؤسساتية والدينية. فالحضارات عنده «كيانات هادفة، ورغم أن الخطوط الفاصلة بينها نادراً ما تكون حادة، فهي تبقى خطوطاً حقيقية». وهنتنغتون يرفض في هذا الباب التمييز بين الحضارة والثقافة، بل يستعملها في كثير من الأحيان كمترادفتين، فتجده يقر بأن مصدر النزاعات في العالم سيكون ثقافياً وحضارياً، وبمعنى آخر، فالعامل الثقافي والحضاري هو المصدر الرئيسي للانقسامات بين الشعوب التي تتطور في ظل تجمعات ثقافية كبرى تتمحور حول سبع أو ثماني حضارات: «مرحلة ما بعد الحرب الباردة تؤكد بشكل واضح أن الانقسامات الجوهرية بين الأفراد ليست ذات طبيعة أيديولوجية أو سياسية أو اقتصادية بل ثقافية. العالم معرض لأزمة هوية شاملة حيث كل الشعوب والأمم تسعى للإجابة عن السؤال: من نحن؟ ويجيبون بالرجوع إلى كل ما هو عزيز عليهم: أجدادهم، دينهم، لغتهم، تاريخهم، قيمهم، عاداتهم، مؤسساتهم.. وبالتحامهم في جماعات ثقافية على شكل عشيرة، أو مجموعة إثنية، أو أمة، وأخيراً على شكل حضارة».


وهذا كما كتبنا في وقته كلام كله خطأ، فالحضارة والثقافة ليستا أمراً واحداً، «فخلط الثقافة بالحضارة يدفع إلى تحويل جميع الفوارق النسبية اللغوية أو الإثنولوجية إلى فوارق حضارية، ويقود إلى التعسف في استخدام المفاهيم»، ولا يمكن أن نتصور حضارة دون ثقافة أو ثقافات، فهي الوقود الذي يحرك الحضارات، ولا يمكن أن نتصور ثقافة من دون حضارة، «إذ لا يمكن أن نتصور الحضارة كمجال تفاعل للثقافات من دون وجود هذه الثقافات المتفاعلة». فهنتنغتون كان أيديولوجياً يريد أن يعطي للحضارات والهويات طبائع ليست فيها، فهي ليست كيانات مغلقة، مفرغة من كل تلاقح وتمازج مع نظيرتها التي تحرك المسيرة الإنسانية منذ قرون، والتي سمحت «ليس فقط باحتواء الحروب الدينية والتوسع الإمبريالي، بل جعلت التاريخ تاريخاً للتبادل والتفاهم والالتقاء الثري».&
معلوف لا يخرج عن هاته المسلمات، لأنه يؤمن بأن الفصل بين الشعوب بعضها البعض مسألة مستحيلة، كما أن حضارات الشعوب ترتبط فيما بينها ارتباطاً عضوياً. وهناك في نظره أمم ناشئة أو وليدة، تظهر بقوة الآن على الساحة الدولية التي يسيطر عليها سباق التسلح، فضلاً عن التهديدات الخطيرة المتعلقة بالمناخ والبيئة والصحة، وهي تهديدات تلقي بظلالها على الكوكب، وبالتالي «لن نتمكن من مجابهاتها إلا بالتضامن الشامل الذي يجب أن نتحلى به، لأنه السبيل الوحيد أمامنا للخلاص من التهديدات الداهمة».


وفي نفس الوقت يعزز الكاتب أطروحته «غرق الحضارات» بالتأكيد على التحولات الكبرى التي تعرفها الساحة الدولية وتنعكس على الحضارات، فالولايات المتحدة تعرف تغيرات جذرية على الساحة الدولية، كما بدأت تفقد شيئاً من مصداقيتها الأخلاقية في العالم، بما يؤثر سلباً على صورتها الذهنية. وفيما يتعلق بالقارة الأوروبية التي كانت «تتشدق في السابق بالمبادئ الإنسانية والأخلاقية»، يرى المؤلف أنها تعرف اليوم تبني سياسات عمومية هي نقيضة تلكم المبادئ، بينما ينغمس العالم العربي والإسلامي في قلب أزمة عميقة ومتفاقمة.&
لكن إذا سمح لنا بتشريح مستوف للساحة الدولية عبر العصور، فسنخرج بقناعة مفادها أن التناقضات لم تتوقف يوماً من الأيام، بل كانت في بعض الأحيان أكبر مما هي عليه اليوم، وتجعلنا نخالف معلوف في أطروحته، فالحضارات باقية ولن تغرق ما دامت الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي مكونات الحضارة، مستمرة، وما دامت تلكم الحضارات وعاء لثقافات متنوعة تعددت أصولها ومشاربها ومصادرها، لتمتزج وتتلاقح ولتشكل خصائص الحضارة التي تعبّر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعاً.

&

&