بدأ مجلس الوزراء اللبناني مناقشاته الماراثونية لمشروع موازنة 2019 على إيقاع تحركات الشارع، لا سيما العسكريين المتقاعدين، احتجاجا على أنباء عن نية خفض تعويضاتهم، على رغم نفي وزير المال علي حسن خليل نية المس بمعاشاتهم التقاعدية، في وقت تواصل الحكومة اليوم (عطلة عيد العمال) بحث أرقامها في اجتماعات يومية ستحصل برئاسة رئيس الحكومة سعد الحريري، حتى خلال العطلة الأسبوعية السبت والأحد المقبلين في السرايا الحكومية، بعدما حث رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على إنجازها لتحويلها إلى البرلمان كي يقرها قبل نهاية شهر أيار (مايو).


وكان النقاش الأولي للموازنة الذي وزع مشروعها على الوزراء الأسبوع الماضي، بدأ أمس أثناء ترؤس عون لمجلس الوزراء، حيث أدلى معظم الوزراء بدلوهم في شأن التوجهات العامة التي يتضمنها مشروع الموازنة، على أن يجري تفنيد الأرقام المتعلقة بالتقشف في الإنفاق لخفض العجز من 11.8 في المئة (في عام 2018 ) من الناتج المحلي القومي، إلى 8.8 في المئة، بدءا من اليوم، في وقت يعتبر خبراء أن خفض العجز يجب أن يصل إلى 7.8 في المئة، نظرا إلى أن لبنان كان التزم في مؤتمر "سيدر" بخفضه نقطة واحدة كل سنة، على مدى 5 سنوات، لكنه ارتفع أكثر العام الماضي.

وشهدت جلسة الأمس نقاشا لم يخلُ من العتب لا سيما من قبل الحريري على تسريب بعض الوزراء لبعض الأرقام والإجراءات إلى وسائل الإعلام، خصوصا أنه والرئيس عون كانا طالبا في جلسة الخميس الماضي بالتزام عدم التسريب. واضطر الحريري إلى التنبيه من سلوك أسلوب "المزايدات" في شأن حقوق الموظفين ولا سيما العسكريين في تعليقه على كلام لوزير الدفاع الياس بوصعب قاله صباحا أثناء زيارته مواقع الجيش في بلدة عرسال، في شأن ما يحكى عن توجه لحصر التدبير الرقم 3 بالوحدات التي ترابط على الحدود.

وعلمت "الحياة" أن الرئيس عون استهل الجلسة مؤكداً أن الموازنة أهم عمل للحكومة مشيرا إلى الحاجة إلى مناقشة بنودها والبحث في التساؤلات حولها. وقال مصدر وزاري ل"الحياة" إن عون نصح بالاعتياد هلى الاعتراضات على مشروع الموازنة. وتلاه الحريري الذي شدد على أهمية الإصلاحات الضرورية حتى من دون "سيدر"، نظرا إلى الاهتراء الذي أصاب الوضع المالي ما يحتم إعادة النظر بالإنفاق. وقال إن انعكاسات مشروع الموازنة الذي تقدم به وزير المال علي حسن خليل قد تستمر 3 سنوات.

وأوضح أكثر من مصدر وزاري ل"الحياة" أن الحريري بدا منزعجا من تسريب معلومات عن المشروع، منبها إلى سلبيات حصول عدم تجانس بين أعضاء مجلس الوزراء. ورأى الحريري أن الاعتقاد بأنه يمكن الحصول على واردات من المصارف أو أن خفض الإنفاق يكفي في قطاع الكهرباء فقط، خاطئ، لأن المطلوب العديد من الإصلاحات.

وإذ شدد الحريري على أن لا الرئيس عون ولا هو يريد خفض رواتب الموظفين والعسكريين، وإذا هناك من يعتقد أن بإمكانه أن يقوم ببطولات في هذا المجال فهو يخطئ. فجميعنا معني بالتوصل إلى حلول.

دراسة بطيش

وكان أول المعلقين على مشروع وزير المال وزير الاقتصاد منصور بطيش الذي تلا دراسة من زهاء 8 صفحات جرى توزيعها على الوزراء، اعتبر فيها حسب قول أحد الوزراء أنه يمكن البناء على الإجراءات الجيدة التي نصت عليها، لكنه أشار إلى عدم تطرقها إلى أسباب تباطؤ النمو و تنامي العجز وازدياد عبء خدمة الدين العام على الوضع المالي. وأشار بطيش إلى غياب الرؤية الاقتصادية الاجتماعية نظرا إلى اقتصارها على هجس خفض العجز كميا. ودعا إلى الاستثمار من أجل تحقيق النمو، و رفع الإيرادات عبر مكافحة التهرب الضريبي وفرض ضرائب دخل ت صاعدية على الإرث والأرباح العقارية. ورأى أن تقرير الوزير خليل الذي يلخص الموازنة لم يتضمن رؤية للأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية.

وطرح بطيش أسئلة حول كيفية توقع وزير المال نموا بنسبة 1.2 في المئة للعام الحالي، وحول كيفية لجم الدين العام وحول توقعات الموازنة بأن يصل إجمالي الناتج المحلي إلى زهاء 90 ألف مليار ليرة. كما لاحظ بطيش فارقا بين رقم العجز الذي تتضمنه الموازنة وبين الذي جاء في تقريره بعد أن أضاف إليه قيمة العجز في قطاع الكهرباء وسأل عن أسباب توقعه إيرادات أقل العام الحالي قياسا إلى توقعات العام الماضي، مطالبا بالتدقيق في الأرقام أكثر. وانتقد الإعفاءات التي تضمنها مشروع الموازنة من الغرامات على التأخر في دفع الضرائب معتبرا أنه يشجع على التهرب، داعيا إلى تشديد العقوبات على المتهربين من دفعها، وإلى رفع الضريبة على فوائد الودائع من 7 في المئة (كما هي حاليا) إلى 10 في المئة، وإلى فرض رسم 3 في المئة على البضائع المستوردة على مدى 3 سنوات، وتعزيز الرقابة على المعابر الشرعية وغير الشرعية من الجمارك، وزيادة الضرائب على أرباح الامتيازات الممنوحة من الدولة وعلى إقامات الأجانب... كما اقترح بطيش إعادة النظر بهيكلية الدولة وربط السياسات النقدية بحاجة الاقتصاد، وإلغاء المؤسسات والصناديق والمجالس التي لا حاجة لها تحويل مرفأ بيروت إلى مؤسسة عامة تخضع للرقابة. كما طالب بطيش بإعادة النظر بالقروض السكنية ليستفيد منها ذوو الدخل المحدود.

ودعا الحريري إلى أن يقدم وزير المال عرضه حول المشروع، فيما اعتبر نائب رئيس الحكومة غسان حاصباني أن مداخلة بطيش جيدة.

وذكرت المصادر الوزارية ل"الحياة" أن خليل أشار إلى أنه يلتقي مع معظم ما قاله وزير الاقتصاد، لكني كوزير للمال واجبي التقدم بمشروع الموازنة وأتمنى مناقشة كل بند من الموازنة ومدى مطابقتها مع النصوص، وليس هناك شيء مقدس فيها، والرؤية ترد في الفذلكة لكن الأرقام تحتاج إلى المناقشة والشرح الواقعي.

وعرض بعض ما تناوله بطيش لجهة نمو الاقتصاد العام الماضي مشيرا إلى مرحلة جمود بسبب الانتخابات وإلى ارتفاع التضخم.

وقال مصدر وزاري ل"الحياة" إن النقاش تطرق إلى اقتراحات خفض بعض التقديمات للموظفين ومنهم الجيش، جرى سجال بين بوصعب الذي اعترض على ذلك وخليل، الذي أجابه بأن الخفض الوحيد بالنسبة إلى الجيش هو في ما يعطى للعسكريين من محروقات وهو اقتراح. لكن بوصعب بقي على اعتراضه فتدخل الحريري قائلا له أن الخفض لا يتناول الجيش وحده بل الجميع. فنحن نريد تنزيل الأرقام وهذا أمر يجب أن نتحد حوله والموضوع ليس موضوع مزايدة مؤكدا على أهمية ما يقوم به والجيش وقوى الأمن وكل موظف بالدولة.

وقال أحد الوزراء أنه جرى التأكيد أن أي تدبير لن يمس أساس الراتب.

كما طلب الحريري أن يتم نقاش الأرقام في اجتماع اليوم. وواصل خليل شرحه فأكد أنه سعى إلى تحقيق التوازن في الموازنة بخفض النفقات، وزيادة الواردات وتحديد عجز الكهرباء وخدمة الدين. وأوضح في ما يخص الأجور والتعويضات أنه من غير المقبول أن يتقاضى بعض كبار الموظفين مثل الجمارك وغيرها 3 أضعاف راتبه الأساسي، وأن يحصل مدراء عامون على أضعاف راتب رئيس الجمهورية لمشاركتهم في عدة لجان...وأكد أن تجميد نسبة من الرواتب غير مطروح في الموازنة لكنه تحدث عن دراسة حول ذلك، وفق سقوف معينة. وأشار إلى وضع قواعد عامة تتعلق بالتقديمات مثل النقل والتغذية وغيرها. وذكر أحد الوزراء ل"الحياة" أن خليل أشار إلى المحروقات التي تعطى لبعض الأجهزة وتوزع حتى على موظفين في دوائر أخرى عبر "البونات".

وشرح خليل ردا على ملاحظة بطيش حول كيفية تقدير النمو للعام الحالي ب1.2 بأنه استند إلى الواقع الخالي والتقديرات المتحفظة، وإلى الزيادة المتوقعة على الناتج المحلي وانخفاض خدمة الدين، وإلى التوقعات بإصدارات لسندات أقل كلفة من 2018 (أحدها الشهر الجاري). وجرى نقاش بين خليل وبطيش حول الإصدارات وتقصير آجالها لخفض الفائدة. كما حصل نقاش حول إيجارات الأبنية الحكومية التي يمكن التوفير نفقاتها من خلال بناء أبنية في عقارات للدولة في منطقة المرفأ، وحول خفض النفقات السرية وتقليص العطاءات لبعض الجمعيات لمدة 3 سنوات على أن تتم إعادتها بعدها. وأعطيت أمثلة عن وجود عدد كبير من الموظفين في بعض المجالات أكثر من الحاجة، منها في وزارة التربية حيث تحدث الوزير أكرم شهيب عن عدد من الأساتذة يوازي في بعض المدارس عدد التلامذة. وتناولت وزيرة الداخلية ريا الحسن بعض المداخيل غير الواردة في الواردات لبعض الصناديق والأجهزة، ودعت إلى إيلاء مسألة استعادة الثقة أهمية وإلى خفض العجز إلى أقل من 9 في المئة، فيما تحدث وزير الاتصالات محمد شقير عن التهريب غير الشرعي من سورية على الحدود مشيرا إلى خسائر الخزينة والقطاع الخاص، فوافقه بطيش...

وجرى نقاش شارك فيه الحريري حول أضرار رفع الضريبة على فائدة الودائع، في ظل المنافسة مع دول أخرى على اجتذابها.

واستفسر عون عن بعض الشركات ذات النظام المختلط إذا كانت تدفع الضريبة، فيما أثير دور إدخال القطاع الخاص في الخدمات في تعزيز مداخيل الدولة. وسأل في هذا المجال عن "إنترا" و"طيران الشرق الأوسط".

ودعا وزير الشباب والرياضة محمد فنيش (حزب الله) إلى استبعاد المقاربة المحاسبية للموازنة لمصلحة المقاربة الاقتصادية، وأثار مسألة الأرباح التي يحققها البنك المركزي متمنيا ألا تظهر آراء متضاربة بين أعضاء الحكومة قبل مناقشة الموازنة لأن هذا تسبب بردة فعل في الرأي العام على أمور غير واردة في مشروع الموازنة. كما رأى أن زيادة الرسوم على السلع المستوردة ليس إيجابيا.

ودعا وزير الدولة لشؤون المعلومات والتكنولوجيا عادل أفيوني إلى إعطاء إشارات إيجابية عبر الموازنة باعتماد الشفافية في التلزيمات، وإلى ضبط الموازنات المرفقة لبعض المؤسسات مثل أوجيرو، فيما أشاد وزير الشؤون الاجتماعية ريشار قيومجيان بلحظ الموازنة لمسألة دعم القروض السكنية منبها إلى صعوبة حصول ذوي الدخل المحدود على هذه القروض.

واعتبر وزير الخارجية جبران باسيل أننا أمام فرصة استثنائية لوضع موازنة غير عادية وإلى أن يكون حديثنا في الداخل مثله في الخارج وإلا لن نتمكن من وضع موازنة. كما دعا لإصلاح بعض المؤسسات وإقفال أخرى مثل مكتب الشمندر السكري...

وشدد الرئيس عون، على اعادة النظر بهيكلية الادارات والمؤسسات لمواكبة التطور التقني والمعلوماتي، اضافة الى الاسراع في مكننة ادارات الدولة.

خليل: لا جبهات في الحكومة

وأعلن الوزير خليل بعد الجلسة للصحافيين أن نقاشاً هادئاً ومسؤولاً تناول كل القضايا المرتبطة بالموازنة. وكان يرتكز على الربط بين الوظائف الضرورية للموازنة، بالجانب الاقتصادي والمالي والنقدي من خلال المواد القانونية الواردة والارقام وفق النتائج." وأوضح أنه قدم تقريراً موجزاً حول ما تضمنته الموازنة من توجهات وارقام، والذي لم يتضمن الكثير مما تمت اثارته وسائل الاعلام والرأي العام، اذ تم اغفال امور وذكر اخرى غير واردة.

ورأى خليل أن قيمة هذه الموازنة تكمن في السرعة في اقرارها للتعويض عن الفترة الضائعة منذ بداية السنة. أضاف: "إننا في وضع اقتصادي غير سليم، وشهدنا خلال السنوات الست الماضية نسبة نمو لم تتعد 1،5% في افضل الحالات، علماً ان نسبة النمو الفعلي المحققة في العام 2018 لم تصل الى 1% وبلغت 0،94%، وعلينا التعاطي مع الواقع كما هو. في المقابل، كانت نسبة العجز اعلى بكثير مما كان مقدراً نتيجة مجموعة من الامور المرتبطة بالغاء واردات وزيادة الانفاق من خلال اعتمادات اضافية صدرت عن مجلس النواب.

وشدد على عدم وجود جبهات في مجلس الوزراء وان يتم تظهير المواقف في الخارج على عكس ما يحصل في الداخل، وعلينا التحدث بلغة واحدة في الداخل والخارج. وما حكي عن تخفيض رواتب والغاء تقاعد وغيرها، هي امور لم يقاربها احد ان في النص او بالكلام، وهذا امر لا يحتاج الى توضيح، ولم يحصل اي نقاش في هذا الخصوص اكان للقطاع العام او للسلك العسكري.

وعن التحركت التي حصلت في الشارع احتجاجا على الموازنة قال خليل: "أتمنى على المتقاعدين الا يسلكوا في الحال الشعبوية التي يحاول البعض اثارتها وتصويرها خدمة لمصالح ضيقة. واستغرب دعوة الاتحاد العمالي إلى الإضراب غدا وبعده.

وقال إن خدمة الدين العام، لم ترتفع الا 90 مليار ليرة لبنانية، وإن وفراً حصل بمقدار 900 مليار نتيجة معاجلة هذه الخدمة واصدارات بفوائد قليلة. وأكد أني لم اسمع باي تباين في الجلسة بيننا والرئيس، كل الوزراء طرحوا ملاحظاتهم وهو امر طبيعي، اذ ان الموازنة ليست منزلة وستشهد تعديلاً بالتأكيد.