&محمد بدر الدين زايد&&

يستحق التقرير الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" أخيراً، حول وجود أدلة على تورط قطري في حادث إرهابي نفذه "تنظيم الشباب" الصومالي الإرهابي، وقفة متمعنة لما يكشفه من دلالات عدة، خصوصاً حول النهج الذي تتعامل به هذه المصادر الإعلامية الغربية مع هذه القضية.


وتفيد القصة كما روتها الصحيفة بأنها حصلت على تسجيل لحوار هاتفي بين رجل الأعمال القطري خليفة كايد المهندي، الوثيق الصلة بأمير قطر والأوساط الحاكمة فيها، أجراه مع سفير قطر في الصومال حسن هاشم، خلاصته أن التفجير الذي تم أخيراً في ميناء بوصاصو الصومالي، قامت به أطراف صديقة، وذلك لترهيب الإماراتيين من التواجد والنشاط في الصومال. وأضافت الصحيفة أنه بسؤال الرجل، لم ينف حدوث المكالمة إنما اكتفى بتأكيد أنه مواطن عادي وليس مسؤولاً حكومياً في بلاده. أما السفير القطري (هاشم)، فتهرب وأنهى المكالمة سريعاً. وركزت الصحيفة في تقريرها، بعدما قدمت أدلتها على صحة التسجيل وما احتواه من قبول واضح من جانب السفير القطري لهذه الممارسات، ركزت على ما وصفته بـ" التنافس الإماراتي – القطري في الصومال، وعلى الخلاف بين البلدين. من ناحية أخرى، قامت قناة "الجزيرة" وأبواق قطر الأخرى بنفي التورط وإنكار أي علاقة لهم بـ "تنظيم الشباب" الصومالي، الوثيق الصلة بـ "القاعدة" و"داعش" وفق وصف "نيويورك تايمز" وهو أمر معروف.

من يقرأ المقال المطول الذي أعده الصحافيان بيرغمان وكيركباتريك بشكل رئيس، يجد أن بؤرة التركيز فيه انتقلت بشكل سريع بعد إثبات صحة التسجيل وما احتواه من معلومات، إلى مسألة التنافس القطري – الإماراتي، ولم تركز بشكل كاف على مسألة روابط قطر بهذا التنظيم وتوظيفه بشكل سياسي خطير يجب أن يكون محور القضية قبل أي شئ آخر. وهنا، لاشك أن على المعلق الصحافي المحترف، مثله مثل الباحث العلمي الموضوعي، أن يسبر أغوار أبعاد الحقائق كافة، المرتبطة بما يعرضه من معلومات، شرط إعطاء الوزن النسبي الدقيق لكل بعد أو متغير في موضوعه بشكل رئيس. بعبارة أخرى، من الأمانة والموضوعية لكاتبي المقال أن يتناولا مسألة التنافس الاقتصادي السياسي القطري – الإماراتي، كأحد أبعاد الصورة الكلية للمشهد، ولكن من دون أن يطغى ذلك على لب القضية وهو تأكيد هذه المعلومات لما هو شبه ثابت ومؤكد من دور لقطر وعلاقة وثيقة تربطها بتنظيمات الإرهاب المتستر وراء الدين، وهو ما يجب أن يصبح محور الاهتمام السياسي والإعلامي.

من النماذج المعروفة التي مارس فيها العالم خداع الذات، قيام قطر المتكرر بالتفاوض مع تنظيمات إرهابية، مثلما حدث في وقائع خطف العسكريين اللبنانيين بواسطة تنظيم "داعش" الإرهابي في جرود بلدة عرسال اللبنانية، ما شل قدرة الجيش اللبناني على تطهير هذه المنطقة الحدودية مع سورية، خلال بعض مراحل احتدام أزمة الأخيرة. ونتيجة لضغوط داخلية لبنانية، قبلت الحكومة اللبنانية بهذا الدور الوسائطي المشبوه الذي يدين في الحقيقة الحكومة القطرية، ولا يؤكد أي بطولة لها، كونه يؤكد العلاقة الوثيقة التي تجمعها بهذا التنظيم الإرهابي، كما يؤكد دورها المعروف في نشأته وتسليحه. صحيح أن قطر لم تكن وحدها في هذا الصدد، لكنها الوحيدة التي تقوم بذلك حالياً، إضافة إلى تركيا، كما أنها كانت تتفاخر بهذا الدور وتتاجر به في تأكيد لما يجب أن يكون حقيقة مصدراً للشعور بالعار وليس بالفخر. وربما سيأتي يوم يراجع فيه الشعب اللبناني هذه القصة، ليتأمل دلالاتها السلبية وخاصة في ما يتعلق بالتفاوض مع تنظيم إرهابي انتهك سيادة لبنان، وما تمثله من أدلة تدمغ الدور القطري بالتورط في دعم هذا الإرهاب وتوظيفه.

قد يطرح البعض مقولة أن هذا الدور القطري يشكل جزءاً من مجموعة أنشطة وتحركات عدة للوساطة في أزمات عديدة مثل درافور، وأنه يعكس رغبة سياسية واستعداد لتوظيف القدرات المالية لهذه الدولة لتعزيز دورها. لكن ذلك يتضمن خلطاً كبيراً للأمور، فبصرف النظر عما أحاط بهذا الدور من ملابسات في السودان أوغزة، وهي ملابسات واعتبارات تدين السياسة القطرية، فن الأمر يرقى إلى مستوى الجريمة الكاملة الواضحة تماماً في مسألة عرسال اللبنانية، إذ تضمنت الصفقة الإفراج عن عدد من عناصر "جبهة النصرة"، ومن النساء والأطفال "الدواعش" الذين بدأ نقاش جاد حولهم أخيراً. ولعلنا كنا من أوائل من أشاروا إليه عربياً، عندما عرضنا للرفض الغربي المتوقع - والذي ثبت بعد ذلك - لعودة هؤلاء لى مجتمعاتهم الغربية التي خرجوا منها. وعموماً، ليست هذه القضية المحورية هنا، إنما الإفراج عن بعض عناصر "النصرة"، وما أحاط بالصفقة من تأكيدات على وجود مقابل مالي كبير تم منحه لهذا التنظيم الإرهابي تحت ستارة التبادل، واستغلال قطر لهذه الستارة لتقديم هذه الأموال، بعد أن كانت وتيرة الضغوط ضد تمويلها هذه التنظيمات قد ازدادت بعد تحرك الدول الخليجية الأربع المقاطعة للدوحة في هذا الصدد.

وفي ليبيا، ستتكشف حقائق خطيرة بمجرد سقوط سيطرة الميليشيات المسلحة على العاصمة طرابلس، وهذا ما يفسر شدة المقاومة القطرية - التركية ومحاولة منع سقوطها. ولكن الأمر بالنسبة للشعب الليبي يكاد يكون معروفاً، وربما لو أجرت أي جهة دولية محايدة استطلاعاً أميناً للرأي العام الليبي، لن نجد نموذجاً مماثلاً لحالة الاستهجان الليبية المعادية للسياسات القطرية ومسؤوليتها عن تدهور أوضلع الشعب الليبي ومعاناته.

في جميع الأحوال، تكشف واقعة هذه التسجيلات أن كشف الأسرار في عالمنا المعاصر مسألة وقت لا أكثر و لا أقل، على أن المهم بعد ذلك هو ضرورة المحاسبة الدولية على كل هذه الجرائم، والتوقف عن توظيف الجماعات المتشددة، وعن خلط الأوراق في الساحات الدولية والإقليمية لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية. والمهم أيضا أن يتم توظيف هذه المعلومات بشكل جاد في معركة تطهير العالم من جريمتي الإرهاب والتطرف، وهذه ليست مسؤولية الساسة والدبلوماسيين وحدهم، ذلك أن للإعلام والمجتمع المدني دورهما المهم في هذا الصدد.