محمد الشارخ

من زمان.. أواخر القرن السابع عشر كتب فيلسوف السياسة الإنكليزي توماس هوبز «المواثيق من دون حد السيف مجرّد كلمات»، وهذا ما يقوله عبدالله بشارة في كتابه الأخير «الغزو في الزمن العابس»، وهو ما توصّل إليه الكويتيون، ومنهم عبدالله بعد الغزو العراقي للكويت. يكتب بحرارة وعاطفة يحسده عليها الشباب. لا يريد أن يترك شيئاً يعرفه عن تلك الفترة العابسة في تاريخ الكويت. كان آنذاك الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي (الذي تتهاوى عليه المعاول). يعمل ليلاً ونهاراً ومن دون توقّف ذهني أو جسدي. يتّصل بالطائف، حيث مقر الحكومة وبالأمم المتحدة وبواشنطن وعواصم الدنيا كلها. كنت أراه يهرول في ممرات المجلس بالرياض ليلحق بشيء ما هنا، واتصال آخر هناك، ديناميكية نمر مستفز، كان واثقاً من طرد صدام وتحرير الكويت. يبث الثقة والاطمئنان لنا نحن الذين كنا نزوره لنسمع تحليل الأخبار وجديدها. كما جماعة المنتظرين، وكان المدافع والمهاجم يساعده بذلك موقعه في الرياض التي كان موقفها متطابقاً مع أماني الكويتيين. ومهما أُعطي اليوم من أوسمة على ذلك الجهد فإنها لا تقارن بما أعطاه لوطنه من قناعات واعية بحقائق العالم السياسية، وما زال يكدح ترسيخاً لقناعاته وتنويراً لمواطنيه. دوافع الغزو ما الذي جعل صدام يُقدم على تلك الفعلة الشنيعة؟ أولها التربية التآمرية التي تربّى عليها واعتقاده أنه كسب الحرب العراقية ــــ الإيرانية وحاجته المالية بعد الحرب الطويلة مع إيران واستهانته بالآخرين، خاصة دول الخليج وأقربها الكويت، وتفسيره الذي يكشف عن جهل مطبق بالمصالح الدولية من تصريح وكيل الخارجية الأميركي للكونغرس بأنه لا اتفاقية أمن مع الكويت، والأشد مكراً قرار سفيرة الولايات المتحدة في بغداد، إبان اشتداد الأزمة بأخذ اجازتها السنوية ومغادرة العراق، فاستنتج من ذلك عدم اهتمام الولايات المتحدة بما يحدث في المنطقة. لكن الدافع الرئيس للغزو، الذي أدركه الكويتيون، هو ما كرره الملك حسين آنذاك في محاوراته مع الساسة الأميركان والإنكليز، ناهيك عما كان يتبادله مع مؤيّديه في الرأي والمشاركين بدرجة أو بأخرى بالجشع للمال الذي يزيغ الأبصار، وهو مقولة «الذين يملكون والذين لا يملكون».

نعم، نحن نملك، ولكن لماذا يرى أننا يجب ألا نملك؟ سويسرا تملك الجبال، النمسا تملك البحيرات، مصر لديها النيل، والعراق عنده نهران وتاريخ وبساتين وجبال، فلماذا لا نملك نحن ما جادت به الطبيعة علينا، مثل كل بلدان العالم؟! نزق وتهور لو طبقناهما في الحياة العامة، ناهيك عن العلاقات الدولية، لا متلأت السجون بالمجرمين، دول الخليج، ومنها الكويت، كما يبيّن ذلك عبدالله، ككل شعوب العالم محكوم بقدرتها وجغرافيتها، لديها موارد نفطية كبيرة تحتاجها البشرية بغض النظر عن مدى حاجتها لعوائدها المالية، ملتزمة بتزويد العالم بما يحتاجه من طاقة وبطرق استثمار عوائدها.

هذا يحد من حريتها؛ إذ يلزمها عملياً بالاستجابة للحاجة الدولية وكبح التصرفات التي تخرج عن قبول المجتمع الدولي أي الدول الكبيرة، مثلا تحدّ القوانين من حرية الأفراد بعمل لا ترضاه مجتمعاتهم، فالحرية لم تكن مطلقة في يوم من الأيام. عبدالله الغنيم وهناك عبدالله آخر، الجغرافي الكبير عبدالله يوسف الغنيم، الذي أدهشنا، وما زال، بقدرته على المحافظة على «مركز البحوث والدراسات الكويتية» بمهنية ونزاهة لم نعهدهما في كثير من المؤسسات، راهب وهب العمر والذكاء ليوثّق استقلال الكويت وحدودها وتاريخها ومجتمعها، وليترجم ويحقّق وينشر، نجح لأن المال لم يستهوِه، طريقة العلم وحياة العالم المتواضعة البعيدة عن الصخب، ولو بيدي لضاعفتُ ميزانية المركز لكي يوسّع نشاطه في الترجمة وليدرب باحثين مهنيين آخرين، ليؤسسوا مستقبل البحث الحر المستقل الذي يعطي الكويت العمل الثقافي المفقود في كثير من البلاد العربية اليوم، حيث تختلط الثقافة بالترفيه.

أول الصيف، أهداني عبدالله الغنيم كتاب عبدالله بشارة الثاني «حروب الكويت الدبلوماسية» يوثّق فيه عبدالله حقبة الاستقلال بكل تفاصيلها ومواثيقها وخطاباتها حتى ليعد الكتاب المرجع الرئيسي لحقبة الاستقلال والانضمام الى الجامعة العربية والأمم المتحدة، واستقلال الكويت صراع دام أكثر من ثلاثة قرون؛ وإذ تكالبت مصالح دولية مختلفة على المنطقة في أواخر القرن التاسع عشر تمكّن السياسي الداهية مبارك الكبير بحروبه المتواصلة شمالاً وغرباً وجنوباً ودفعه بأبنائه وأبناء الكويت لجبهات القتال، من الاحتفال بالكويت مستقلة، وبمباركة السكان الذين توارثوا حرية التشاور مع الحاكم في أمور بلدهم، ورفضهم هيمنة العثماني وضرائبه، وقع اتفاقية الحماية مع بريطانيا، أي موظِّفاً المصالح البريطانية لمصلحة الاستقلال، وأوفت بريطانيا بالتزاماتها مراراً ولم تتدخّل في الشؤون الداخلية، وبعد الحرب العالمية الثانية وانبثاق حركات الاستقلال من الحقبة الاستعمارية وانتشار المد القومي العربي في المنطقة العربية، ومنها الكويت، تمكّن الحكيم عبدالله السالم وبموافقة الأهالي، الشباب والأعيان وتحريضهم، من نيل الاستقلال سنة 1961. يبيّن الكتاب المداولات في الجامعة العربية قبول الكويت عضواً في الأمم المتحدة وإصرار عبدالناصر على خروج القوات البريطانية من الكويت بعد تهديد قاسم إبان إعلان الاستقلال شرطاً لدخولها عضواً في الجامعة العربية. كان موقفاً مفهوماً؛ فعبدالناصر الذي وقّع اتفافية جلاء الإنكليز عن بلاده يجد من الصعوبة أن يقف الجنود المصريون إلى جانب الجنود الإنكليز للدفاع عن الكويت في وجه التهديد العراقي. كان يريد تطبيق مبدأ التضامن العربي طبقاً لميثاق الدفاع العربي المشترك، الذي هو أساس الجامعة العربية. ووفقاً لمبادئه لم يقايض ولم يطلب شيئاً.

وحين حدثه طارق شبيب وزير خارجية «البعث» الأولى عن الوحدة وضم الكويت ألجمه عبدالناصر، قائلاً «الوحدة العربية لا تكون بالضم، اذهب لصباح الأحمد فهو في سنّك وعروبي مثلك وتفاهم معه».. عندئذ، خضعت حكومة «البعث» الأولى واعترفت باستقلال الكويت. وعند تقديم طلب الانضمام للأمم المتحدة طالبت دول كثيرة بإلغاء بند من اتفاقية الاستقلال الموقعة من بريطانيا، ينص على استدعاء قواتها لحماية الكويت شرطاً لقبولها عضواً، وإذ جرى ذلك وقف المندوب المصري مدافعاً شرساً عن استقلال الكويت معارضاً وبصلابة موقف حلفائه السوفيت آنذاك، الذين كانوا مؤيّدين لعراق عهد عبدالكريم قاسم قبل انقلابه على الشيوعيين. كان الموقف المصري في الأمم المتحدة عاملاً أساسياً، بل حاسماً في قبول الكويت عضواً؛ إذ استندت إليه كثير من الدول في التصويت لمصلحة الانضمام.

كتاب مذهل ولو بيدي لجعلت الكتاب المذهل لسعاد الصباح «مبارك» مقرراً للمطالعة في الدراسية الثانوية. إنه تاريخ مصاغ بلغة أدبية راقية، كتاب يؤرّخ لفترة حاسمة وخطيرة من تاريخ استقلال الكويت، وفوق ذلك فهو متعة للقراءة الدرامية. ولقد تمنيت كما يحصل في السير التاريخية في الغرب، لو توافرت المراجع، أن يحدّثنا الكتاب عن أمِّه نورة بنت محمد إبراهيم الثاقب شيخ الزبير، وعلاقته بأخواله، كما وددت أن نعرف عن شخصيته ذات الجوانب المتعددة أكثر؛ فقد كان ـــ كما يصفه الطبيب البريطاني ستانلي ماليري ـــ: «له وجه قائد بالسليقة. دبلوماسياً يشد ويرخي. كان محارباً ومهاباً، ولم يكن حقوداً، كما كان مرناً محبّاً للتصالح والوفاق كما في سعيه للصلح الذي صاغه جدي ملا عثمان الشارخ وآخرون، وبموافقته حقناً للدماء بعد موقعة هدية». كيف نحفظ الاستقلال والثروة؟ تلك جوانب من تاريخ استقلال الكويت، التي كان سكانها كما في أوراق الأمم المتحدة عند تقدّمها بطلب الانضمام 350 ألف نسمة، واليوم تعداد سكانها يزيد على «أربعة ملايين»، ولا يمكن بأي حال ولأسباب اقتصادية التراجع عن هذا العدد؛ إذ يعيش معظم الكويتيين بالإضافة الى المرتبات والعقود من الدولة على ربع إيجارات عقاراتهم للوافدين. كيف نحفظ الاستقلال والثرورة من دون براجمية مبارك.

«بروناي» صغيرة وغنية لم يتطاول جيرانها على ثروتها واستقلالها، لأنها تعيش بين دول مستقرة تزدهر بالنمو. نحن محاطون بدول غير مستقرة تنوء بمستنقع الفقر والخرافة، والخطر قائم حولنا ما دام عدم الاستقرار راسخاً في هذه البلدان. بهزيمة 1967، فقد العرب كبرياءهم اللازم للاستقلال والنمو، فالكبرياء لا ينمو مع الفساد والمحسوبية، بل يترعرع النفاق والانتهازية للسلب والسرقة تحت غطاء قوانين تصاغ لإتاحة السلب (كما تفعل إسرائيل مثلاً). وبغزو صدام للكويت تحطّم النظام العربي القائم على اتفاقية الدفاع العربي المشترك، وغدت الاتفاقية مجرّد كلمات، ولم يستعد التضامن العربي بعد ذلك. وفي تأسيس «فضائية الجزيرة» جرى تقويض مجلس التعاون الخليجي. ولم يبق أمامنا نحن ــــ الكويتيين ــــ إلا دهاء مبارك، الذي وصفه المؤرّخ عبدالعزيز الرشيد «بأنه الكويت». ومتى كانت الدول الصغيرة على مدى التاريخ كله مستقلة إلا تحت حماية إمبراطورية أكبر، أو ما يسمى «النظام الدولي»؟ &محمد الشارخ

&