عبدالله المدني

&

إذا ما استثنينا زمن المد القومي الناصري وزمن انتشار الأفكار الماركسية بشقيها السوفييتي والماوي، وهي الحقبة التي كانت فيها السعودية عرضة للتهديدات والدسائس والمؤامرات والهجوم الإعلامي الضاري من قوى وأنظمة راديكالية ثورية في المحيطين العربي والدولي، فإن التاريخ المعاصر لا يذكر حقبة عانت فيها المملكة من الإيذاء كالحقبة التي تعيشها اليوم.

فالدسائس تحاك ضدها من الشمال والجنوب والشرق، والإعلام الخبيث المجنّد من قوى الظلام واليسار والطائفية والإسلام السياسي الإخواني لا هم له سوى تحشيد أدواته للنيل من بلاد الحرمين وسياساتها وقيادتها بالباطل.في مثل هذه الظروف الاستثنائية التي تحتاج فيها الدول لمن ينافح عنها بالمنطق السليم والأسلوب الذكي، شاءت الأقدار أن يبرز من بين رجالات السعودية الموهوبين دبلوماسياً، محترف يتقن فنون القتال دفاعاً عن الحق، ويملك من العلم والذكاء والخبرة المتراكمة ما يمكنه من تفنيد مزاعم الحاقدين والمتربصين بالأسلوب الهادئ الرزين، ناهيك عن قدرته الفذّة على بناء شبكات من الأصدقاء في مواجهة الأعداء الكثر.

إنه ابن المجمعة، عادل أحمد محمد عثمان الجبير المطرفي الهذلي، خامس وزير للخارجية السعودية، التي كانت أول وزارة تؤسس بعد قيام الدولة السعودية الثالثة، وذلك في ديسمبر 1930، والتي حمل حقيبتها الجبير من بعد الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز (من 1930 إلى 1960)، وإبراهيم بن عبدالله السويل (من 1961 إلى 1962)، ثم الملك فيصل مرة أخرى (من 1962 إلى 1975) فالأمير سعود الفيصل (من 1975 إلى 2015).

وُلد الجبير في الأول من فبراير 1962 في عائلة محافظة مرموقة، ابناً للشيخ أحمد محمد عثمان الجبير الذي خدم بلاده ملحقاً ثقافياً في السفارات السعودية في بون وبيروت وصنعاء، علماً أن جدّه محمد كان من رجالات الملك عبدالعزيز في فتح الأحساء، وعمه محمد كان رئيساً لديوان المظالم ووزيراً للعدل ثم رئيساً لمجلس الشورى وعضواً في هيئة كبار العلماء (توفي عام 2002)، وعمه الآخر فهد تقلّد مناصب حكومية رفيعة أبرزها منصب أمين المنطقة الشرقية، بينما يعمل أخوه نائل مستشاراً إعلامياً للسفارة السعودية في واشنطن، وتعمل أخته نوال أستاذاً مساعداً في جامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن بالرياض.

تعليمه

وبسبب تنقلات والده الوظيفية؛ تلقى الجبير تعليمه الأساسي في ألمانيا ولبنان واليمن، قبل أن يدرس الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة «شمال تكساس» الأمريكية التي منحته درجة البكالوريوس عام 1982، والتي أتبعها بنيل درجة الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة «جورج تاون» بواشنطن عام 1984. كما أن تنقلات والده أفادته لجهة إجادته وإتقانه لعدد من اللغات العالمية كالإنجليزية والألمانية والفرنسية، ناهيك عن اطلاعه عن كثب على ظروف وثقافات الأقطار التي عاش ودرس بها.

حياة مهنية

حفلت سنواته المهنية بالعديد من المناصب، فقد عمل أولاً (عام 1986) مساعداً في سفارة بلاده بواشنطن لشؤون الكونغرس تحت قيادة الأمير بندر بن سلطان، ثم عمل في سنتي 1990 و1991 ناطقاً رسمياً بلسان السفارة السعودية بالفترة التي كانت فيها الاستعدادات جارية لتحرير الكويت. وفي صيف عام 1994 انضم عضواً في وفد السعودية الدائم لدى الأمم المتحدة، ثم تولى رئاسة المكتب الإعلامي للسفارة السعودية بواشنطن، وفي عام 2000 اختير ليكون مستشاراً خاصاً لولي العهد آنذاك الأمير عبدالله بن عبدالعزيز لشؤون السياسة الخارجية، ثم عيّن عام 2005 مستشاراً بالديوان الملكي السعودي بدرجة وزير، وصولاً إلى تقلّده منصب السفير السعودي بواشنطن بمرتبة وزير، خلفاً للأمير تركي الفيصل بدءاً من يناير 2007، قبل أن يصدر مرسوم ملكي بتعيينه وزيراً للخارجية في أكتوبر 2015 خلفاً للأمير الراحل سعود الفيصل.

وما بين هذا وذاك، عمل الجبير زميلاً دبلوماسياً زائراً في مجلس العلاقات الخارجية بنيويورك، كما عمل على تأسيس مكتب المعلومات المشتركة في الظهران إبّان عملية عاصفة الصحراء، وكان له دور فعال في إضفاء الطابع المؤسسي على علاقات الرياض بواشنطن عبر تأسيس الحوار الاستراتيجي الأمريكي السعودي، الذي بدأه الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله، والرئيس الأسبق جورج بوش.

رجل مثل عادل الجبير تدرج في كل هذه المناصب في حقبة مزدحمة بالأحداث والتطورات الإقليمية والعالمية، كان لا بد وأن يرى ويشارك بالكثير من الأحداث، فقد شهد تداعيات الغزو العراقي للكويت ونتائجه المؤسفة وشارك إعلامياً فيها، وكان عضواً في الوفد الخليجي إلى مؤتمر السلام في مدريد عام 1991، وعضواً في الوفد السعودي المشارك في محادثات مراقبة الأسلحة متعددة الأطراف بواشنطن عام 1992، ومشاركاً مع القوات السعودية الخاصة التي أرسلت إلى الصومال ضمن عملية إعادة الأمل، ورافق الملك عبدالله بن عبدالعزيز في العديد من زياراته الرسمية كزيارته إلى عـمان ومصر وتركيا وألمانيا وإيطاليا، وجولاته الآسيوية في باكستان والهند وماليزيا والصين، كما رافقه في زيارته التاريخية غير المسبوقة لعاهل سعودي إلى الفاتيكان عام 2007، وشارك مع الأمير سعود الفيصل عام 2007 في الاجتماعات التي استضافتها القاهرة للتحضير لمؤتمر أنابوليس للسلام في السنة ذاتها، والتي شهدت ترؤسه لوفد بلاده إلى مؤتمر الأمم المتحدة لقانون البحار، وشارك مع الملك عبدالله في أول مؤتمر لحوار الأديان بمدريد سنة 2008، وحضر اجتماعات قمة العشرين الثانية في لندن عام 2009 والقمة العربية في الدوحة بذات العام، وقمة العشرين الثالثة بتورنتو عام 2010.

11/‏‏‏‏9

الواقعة الأبرز التي عاصرها الجبير بكل تفاصيلها ونتائجها الكارثية هي أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وما أعقبها من تطورات، وكان عليه آنذاك أن يتسلح بكل ما أوتي من علم وموهبة وذكاء فطري وعلاقات متشعبة للرد على الانتقادات الكثيرة وتهم الإرهاب والتطرف التي ألصقت ببلاده ودينه، والإجابة عن الكثير من الأسئلة التي ازدحمت بها وسائل الإعلام الأمريكية. وقتها لم يتردد لحظة واحدة، في الظهور لساعات على شاشات التلفزة الأمريكية من أجل أن يقدم بلباقة ومظهر أنيق الصورة الحقيقية لبلاده.

وفي هذا السياق سجل عنه قوله: «أصبتُ بصدمة حينها، فكيف تثبتُ للعالم أن بلادك لا تدعم الإرهاب بعدما شارك 15 سعودياً من أصل 19 في الهجمات»، لكن الجبير رمى الحرج والخوف خلف ظهره وراح يظهر يومياً في وسائل الإعلام الأمريكية المرئية والمسموعة ويجتمع مع الصحفيين وقادة الرأي ورؤساء النقابات ومنظمات المجتمع المدني والجامعات ومراكز الدراسات ليقول لهم إن بلاده تعرضت لانتقادات ظالمة لا تستحقها.

وهناك الكثير من الأدلة التي أوردها الأعداء قبل الأصدقاء لتأكيد نجابة الجبير وعلو كعبه في المناظرات والحوارات والمبادرات البناءة، وغير ذلك، فطبقاً لسيرته المنشورة في أكثر من صحيفة وموقع إلكتروني، كتبت صحف واعتبر الإعلام الغربي الجبير أنه «محام جيد ويجيد اللهجة الأمريكية بطلاقة ويتفنن في تطعيم كلامه بعبارات قريبة من عقل الأمريكي العادي ويعقد مقارنات يحبها الأمريكي المثقف».

وقالت عنه مجلة «كويل» الصادرة عن جمعية الصحفيين الأمريكية في ديسمبر 2017: «إنه ماهر ليس فقط في تصريحاته الصحافية، ولكن أيضاً في ترتيب الاتصالات بين كبار المسؤولين السعوديين والأمريكيين»، كما وصفته مجلة «دبلومات» التي تغطي أخبار السفارات الأجنبية في واشنطن بـ«الدبلوماسي اللطيف والراقي الذي يعمل وقتاً إضافياً من أجل تقديم صورة أفضل لشعبه وبلده للجمهور الأمريكي».

ووصفه وولف بلتزر، مذيع نشرة الأخبار ومقدم برنامج (LATE EDITION) على قناة (CNN) بالدبلوماسي الذكي والحصيف، وقال عنه بيل أورايلي، مقدم البرامج في قناة «فوكس نيوز»، إنه يعرف تماماً كيف يشرح وجهة نظره بدقة. والمعروف في هذا السياق، أن الجبير اختير كشخصية الأسبوع من قبل مجلة «تايم» عام 2002 اعترافاً بدوره كمتحدث باسم حكومة بلاده في وقت كانت فيه الرياض تواجه معركة علاقات عامة لإقناع الأمريكيين بأنها حليف معاد للإرهاب، بُعيد أحداث 11 سبتمبر 2001.

كما نال جائزة الخريجين والدكتوراه الفخرية من جامعة «شمال تكساس» عام 2006 ، وتم اختياره من قبل الغرفة التجارية الأمريكية العربية عام 2009 كدبلوماسي العام، تقديراً لإسهاماته في تقارب العلاقات الأمريكية السعودية، وحاز جائزة الإنجاز الدبلوماسي من المجلس القومي للعلاقات الأمريكية العربية.

استثمار

واستثمر الجبير كل ما تعلمه من صولاته وجولاته آنفة الذكر، وكل ما بناه من صداقات واتصالات في تعزيز العلاقات الثنائية بين بلاده والولايات المتحدة بعد تعيينه سفيراً في واشنطن، فاهتم بأحوال السعوديين الدارسين في الجامعات الأمريكية، وركّز على قضايا مكافحة الإرهاب وحوار الأديان والسلام الإقليمي ومسائل الأمن والدفاع وتنشيط التجارة البينية وتعزيز التبادل الثقافي.

وبسبب النجاحات المدهشة التي حققها في الحقلين الدبلوماسي والإعلامي، صار الجبير شوكة في حلق أعداء السعودية وخصومها ممن قام بتعريتهم وكشف إرهابهم وفضح تخرصاتهم، لاسيما النظام الإيراني الأهوج.

وهكذا وضعه الأخير على رأس قائمة المستهدفين بالتصفية بدليل ما حدث في 11 أكتوبر عام 2011، حينما نفذت طهران عبر شخصين إيرانيين وبالتنسيق مع عصابة مخدرات مكسيكية عملية اغتيال فاشلة من خلال تفجير مطعم كان يتردد عليه للعشاء في واشنطن.

وقد اعترف الشخصان أمام قاضي المحكمة الاتحادية في نيويورك بضلوع «فيلق القدس» التابع للحرس الثوري الإيراني في المخطط الإرهابي، كما أن وزير الدفاع الأمريكي السابق جيمس ماتيس أكد في مقابلة تلفزيونية في أكتوبر 2017 أنه يملك وثائق وأدلة من وكالة الاستخبارات الأمريكية تثبت أن محاولة اغتيال الجبير لم يكن حادثاً عشوائياً وإنما عملاً مخططاً له بموافقة كبار رموز النظام الإيراني. وأضاف لاحقاً في كتاب صدر له أن العملية كان من المفروض أن تواجه بحزم وردع، لولا تخاذل الرئيس باراك أوباما الذي كان يداهن الإيرانيين آنذاك من أجل إنجاز الصفقة الخاصة بأسلحتهم النووية.

عزيمة

تولى الجبير قيادة دفة الدبلوماسية السعودية في وقت حساس تزاحمت فيه الأحداث الدولية والإقليمية العاصفة وتبارى فيه الأعداء والخصوم للنيل من بلاده، غير أن ذلك لم يؤثر في عزيمته وصلابته في الدفاع عن وطنه.

تشهد على ذلك جهوده ومساعيه وتحركاته وردوده الإعلامية الذكية في ما خص ملفات اليمن وسوريا والعراق وفلسطين، وأزمة الفراغ السياسي الطويل في لبنان، وتآمر النظام القطري ضد جيرانه ومصر، ووقوف النظام التركي خلف طهران وجماعة الإخوان المسلمين المهزومة في مصر، ومؤامرات بقايا المخدوعين بما سمي احتجاجات «الربيع العربي»، وإطلاق النظام الإيراني لأدواته للتدخل في الشأن الخليجي المحلي بالتحريض والتآمر، والأزمة التي افتعلتها برلين مع الرياض حول وقف مبيعات السلاح للسعودية بسبب الحرب في اليمن، والتدخل الكندي الوقح في الشأن الداخلي السعودي. كل هذا وغيره جعل الجبير متصدراً للمشهد بامتياز.

منصب مستحدث

في 27 ديسمبر 2018 أجرى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز تعديلاً وزارياً واسعاً في الحكومة السعودية، اشتمل على تعيين الجبير في منصب مستحدث هو «وزير دولة للشؤون الخارجية» للتفرغ لإدارة الأعمال السياسية والتحركات الدبلوماسية طبقاً لتغريدة نشرتها وزارة الخارجية السعودية.

وأخيراً فإن كاتب هذه السطور أتيحت له مرة وحيدة فرصة الالتقاء بالوزير الجبير وذلك في المنامة في مارس 2016 خلال مشاركتي في مؤتمر وزراء الخارجية العرب والهند بصفة خبير، فلمستُ عن قرب كل ما قيل عنه من أدب وكياسة ولطف، خصوصاً حينما حييته وتحدثتُ إليه بالألمانية التي تعلمها في صغره وتعلمتُ بعضها في كبري.

رأي صائب

بنظرة متفحصة على المواقف التي عبر بها عادل الجبير عن نظرة السعودية حيال قضايا وأحداث المنطقة، انتقدت لندن وواشنطن وغيرهما من العواصم الغربية العمليات العسكرية في اليمن بقيادة السعودية خرج الجبير ليرد موضحاً أن من مصلحة المنتقدين دعم السعودية لا انتقادها لمنع سقوط اليمن في قبضة إيران والإرهاب، مؤكداً أن اليمن اختطف على يد متمردين يأتمرون بأوامر طهران، وأن السعودية «أرادت أن يكون خيار إنهاء الأزمة اليمنية من خلال عملية سياسية، ولكن طريق الحرب كانت خيار الحوثيين وداعميهم».

وصرح الجبير للصحافة البريطانية بأنه يتعين على إيران تغيير سياساتها واحترام القانون الدولي إذا أرادت تقارباً، مضيفاً أنه على طهران وقف تدخلاتها في البحرين واليمن وسوريا والعراق، والكف عن تأجيج الصراع الطائفي وتحريض الآخرين.

وفي مؤتمر ميونيخ للأمن، أعاد الجبير تأكيد ما سبق حينما قال ما مفاده أن إيران هي الداعم الأكبر للإرهاب في العالم، وأن الميليشيات التي تدعمها تزعزع الأمن في الشرق الأوسط، مضيفاً أن «استمرار إيران في سلوكها العدائي يعوق أي حوار معها، بل يتعين على المجتمع الدولي أن يعاقبها».

وحول الاتفاق النووي بين إيران والقوى العالمية الست في يوليو 2015، كان للجبير رأي صائب عبر عنه في مركز «تشاتام هاوس» البريطاني للعلاقات الدولية بلندن، حينما قال بوجود عيوب كثيرة في الصفقة سوف تؤدي إلى الإخلال بالاستقرار الإقليمي، ناهيك عن أنها ستتيح لإيران الحصول على موارد مالية لإنفاقها على الجماعات المسلحة العاملة لحسابها في الشرق الأوسط. وحينما قرر الرئيس ترامب الانسحاب من الصفقة، أعرب الجبير عن تأييده للقرار، وقال إن على بقية الأطراف أن تحذو حذو واشنطن كي توجه رسالة للنظام الإيراني بأن تصرفاته غير مقبولة.

&