بهجت قرني&


منذ ولادة لبنان كدولة مستقلة، في أربعينيات القرن الماضي، نشأت أجيال عربية على النظر إليه على أنه زينة المنطقة، بل سويسرا الشرق: مجتمع مفتوح دون احتكار من قوى سياسية معينة، ومؤسسات علمية متعددة المشارب (مثل الجامعة الأميركية وسان جوزيف الفرنسية.. إلخ).

وكان لبنان يواجه الأزمات ويتخطاها، بل أصبحت تجربته على المستوى العلمي العالمي أساساً لنقد النظرية الديمقراطية الغربية القائمة على الأغلبية البسيطة، حيث قدم أستاذ جامعة ييل، «أ. ليبهارت»، نظريته عن الديمقراطية مستوحياً النموذج اللبناني، لكن هل ستضرب لبنان أزمته الحالية في مقتل، لينضم إلى قائمة الدول الفاشلة في المنطقة العربية، من العراق إلى ليبيا؟
قد يعتقد بعض زملائي اللبنانيين -وهم أكفاء- بالقول إنهم فقط القادرون على مواجهة هذا التساؤل وتحليله، لكن المحلل من الخارج له أيضاً إسهامه، لأنه القادر على تجاوز الجزئيات والتفاصيل اليومية، لكي يركز على الوضع وكلياته، كما أن أسفاره تساعده على النظر إلى الأزمة اللبنانية بأسلوب مقارن.

النقطة الرئيسية والأهم، هي أن لبنان -بسبب نشأته وتكوينه- أصبح تقريباً بلد الأزمات، والجميع يتذكر الحروب الأهلية الطائفية، التي مزقت لبنان في الخمسينيات والسبعينيات، والتي كادت تُودي به، خاصة بعد دخول القوات السورية واحتلالها للبلد.
لكن الأزمة الحالية مختلفة؛ فأسبابها المباشرة تبدو اقتصادية، جراء العجز عن الحصول على الكهرباء ومياه الشرب والعملة الصعبة لتأمين الواردات الضرورية، ثم فاض الكيل مع إجراءات التقشف، وفرض الضرائب في بداية الشهر الماضي، لكن هذه ليست إلا أعراض لوضع اقتصادي متردٍ، ووضع سياسي ينكشف عجزه أكثر فأكثر في مواجهة المشكلات، إنها ليست أزمة واحدة، بل تراكم أزمات اقتصادية وسياسية متداخلة، فالعجز السياسي مثلاً ارتبط بفساد مستشرٍ ومتجذر، ففي سنة 2008 وصل مستوى الدين العام 151% من الناتج المحلي الإجمالي، ولم يعد هناك إقبال دولي على سندات الحكومة اللبنانية، لتدني مكانة هذا البلد، وقدرته على السداد حسب تصنيف مؤسسات التمويل الدولية.
الأزمة الاقتصادية أدت إلى مزيد من البطالة، وتردي البنية التحتية المتهالكة، ما جعل الحياة اليومية للبنانيين أكثر صعوبة، وأزاح الستار بوضوح عن أساس الأزمة: عجز الجهاز السياسي وفساده، ونتذكر «أزمة القمامة» قبل عامين، وما أثارته مظاهرات ضد السياسيين، رُفع خلالها شعار «فاحت رائحتكم».
في الأزمة الحالية، تم اختفاء أموال من البنك المركزي، وعندما نشبت الحرائق وانتشرت لم تستطع السلطات إطفاءها، واضطرت للاعتماد على الخارج لكي لا يحترق لبنان بأسره.

لكن هناك ما هو أهم: اكتشاف معظم اللبنانيين أن العجز السياسي ليس فقط في الأداء الذي يمكن مواجهته، ولكن في جذور النظام السياسي نفسه، الذي يعتمد على المحاصصة الطائفية، والذي كان ينظر إليه على أنه الحل، لكن يبدو الآن أنه المشكلة.
لم يؤدِ نظام المحاصصة الطائفية إلى توافق ديمقراطي كما يبدو، وكما قال العديد من علماء السياسة، لكن أفضى إلى نظام إقطاعي، يعتمد في إدارته على تقسيم الغنائم بين النخب السياسية المختلفة، وبدأ يظهر عجزه وفساده يوماً بعد آخر.
لذلك، فالاحتجاجات والمظاهرات الأخيرة ليست لطائفة ضد أخرى، بل هي تعبير، كما يقول شعار المتظاهرين، عن «شعب واحد» ضد كل النخب والقوى السياسية التقليدية.
لكن ما هو الحل؟ وما البديل عن المحاصصة الطائفية؟ للأسف الشديد لن يظهر اليوم أو غداً، بسبب تراكم الأزمات الاقتصادية والسياسية وتشابكها، لذلك فالحل يجب أن يتوجه إلى الجذور، وحشد الجماهير كالعادة يحتاج إلى وجود مشكلات، وهذا منطقي، لكن الحشود غير قادرة على بيان الحل، قد تستمر حكومة تسيير الأعمال لشهور، كما حدث في مواجهة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حيث استمر «الوضع الاستثنائي المؤقت» لشهور وأعوام، لكن مواجهة جذور المشكلة سيأخذ وقتاً أطول، فلنستعد للتعايش والتكيف مع بقاء «الأزمة اللبنانية»، داعمين لكل اللبنانيين الذين يعملون على «الحل من الجذور»، لكي يعود لبنان النموذج.

&