محمد خليفة

الاحتجاجات الهائلة التي تجتاح لبنان هذه الأيام تعبّر، بلا أدنى ريب، عن مطالب شعبية مشروعة. فقد خرج الشعب اللبناني يرفع عدة مطالب أساسية؛ على رأسها الدعوة إلى اجتثاث الفساد واسترجاع المال المنهوب وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وفق قانون انتخابي عادل خارج القيد الطائفي؛ لإعادة تشكيل السلطة وفق معادلة جديدة بهدف تأمين العيش الكريم.

وقد جاءت تلك الاحتجاجات بعد أن سُدّت في وجه هذا الشعب أبواب الحياة؛ بفعل ممارسات الطبقة السياسية الحاكمة، وعجزها عن معالجة المشكلة الاقتصادية المتفاقمة. فلبنان اليوم يعيش على حافة انهيار اقتصادي، ولم يعد لديه القدرة على تمويل المستوردات بسبب افتقاده النقد الأجنبي، بعد أن وصل حجم دينه الخارجي إلى 100 مليار دولار. وكان هذا الدين نحو 3.2 مليار دولار في بداية العام.
ولا يبدو، في الأفق القريب، أن ثمة أملاً في وضع حدّ لهذا الدين الكبير، خاصة مع نفاد كل السبل أمامها في تأمين موارد جديدة للخزينة العامة. ذلك أن لبنان لا يملك اقتصاداً حقيقياً قائماً على الإنتاج، بل اقتصاده ريعي، في أساسه، يقوم على المبادرة الفردية، ويستحوذ القطاع الخاص على أكثر من 75% من مفاصله، وكانت مداخيل السياحة تشكل الجزء الأكبر منه.
لكن هل يمكن أن يتغيّر النظام السياسي اللبناني كما حدث في بعض الدول العربية الأخرى، مؤخراً، مثل: الجزائر والسودان، وهل نشهد ولادة لبنان جديد غير الذي نعرفه؟
الواقع أن سقف المطالبات الشعبية اللبنانية عالٍ جداً خاصة في بلد يقوم في تركيبته السياسية على أساس طائفي، وقد كانت ثمرة حروب ونزاعات طويلة، لذا فإن التغيير في هذه التركيبة السياسية يبدو أمراً بعيد المنال، على الأقل في الوضع الراهن الذي يشهد تأزماً في الموقف السوري، وثورات مشابهة في العراق إضافة إلى وهن الموقف العربي الراهن من جراء ما يزعمون أنه الربيع العربي.

لقد أدى التدخل الأوروبي في المشرق في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى حدوث حرب أهلية في جبل لبنان في عام 1860، ثم سنة 1958، ثم سنة 1975.
وقد أدخل العدوان «الإسرائيلي» المتكرر على الأرض اللبنانية منذ عام 1978، لبنان في قلب الصراع العربي «الإسرائيلي» بعد أن كان ينأى بنفسه عنه منذ إنشاء «إسرائيل»، وقد أدى ذلك إلى تغيير في التركيبة السياسية اللبنانية، ما أدى إلى ظهور كيانات سياسية جديدة حلّت مكان الزعامات القديمة، وقد ارتبطت الكيانات السياسية الجديدة بتحالفات مع قوى إقليمية ما أدى إلى تعقّد المشهد اللبناني بنظامه القابل للانفجار عند كل منعطف.
الواقع أن لبنان بحاجة إلى معجزة كي تنقذه من السقوط في هاوية الإفلاس الحتمي. فقد عانى لبنان من آثار الحرب الأهلية الأخيرة التي مزقته طيلة 15 عاماً، إضافة إلى الاحتلال «الإسرائيلي» الذي التهم جزءاً من أراضيه، ما أدى إلى انهيار الدولة بمؤسساتها خلال سنوات الفتنة التي أكلت الأخضر واليابس، ومزقت وحدته الداخلية وتعطلت التنمية. وفي ظل تعقد المشهد الإقليمي والدولي وانسداد الأفق بإيجاد حل لمشاكل المنطقة، خاصة القضية الفلسطينية والأزمة السورية، اللتين تلقيان بظلال كثيفة على الواقع السياسي في لبنان.

لا شك أن لبنان دخل حيز الخطر الاقتصادي والاجتماعي، ولكن من المستبعد أن تترك الدول العربية والغربية لبنان يواجه ذلك المصير المجهول في أجواء تعصف بها الفتن من كل مكان. ويأتي التئام مجموعة الدعم الدولية للبنان، التي عقدت يوم الأربعاء الماضي اجتماعها في باريس، بمشاركة الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن الدولي وصندوق النقد الدولي، من أجل مساعدة لبنان.
لقد تميز هذا الوطن العربي الجميل بما تشرّبه من ثقافة تشكلت عبر مختلف الحضارات على مدى آلاف السنين، ولعبت جغرافيا البحر المتوسط دوراً في تشكيل تاريخ لبنان وثقافته. والثقافة هي عملية إبداع وفكر بمعناها الأنتربولوجي، فهي تتضمن التطور التاريخي الذي جمع هذا الشعب وارتباطه مع دول العالم، وحكمة التاريخ عمدت دائماً إلى بصم تاريخ الشعوب ببصمات بارزة وعميقة على اختلاف الأجيال. ويستحق لبنان الحياة بكرامة وحرية كما تقتضي جذوره والقواسم المشتركة بينه وبين جميع الدول العربية.

&