محمد الرميحي

تتزاوج الانتهازية السياسية بمآسي الممارسة لدى حركة «الإخوان» السياسية على مر قرن كامل تقريباً من الممانعة إلى المشاركة ومن ثم إلى الاستحواذ على السلطة بمشروع ضبابي بالغ الانقطاع عن العصر ودموي. والمشكل الذي نواجهه ليس تاريخياً بل معاصر، إذ ما زال كثيرون يؤمنون به إما عن قناعة وإما عن تكسب سياسي وعلاقة نفعية. ذلك التزاوج بين الانتهازية السياسية والشعارات التراثية التي خلّفت مسخاً سياسياً، اتضح في الكثير من الكتابات سواء من أعضاء سابقين في الجماعة أو باحثين جادين. الجديد هو ما بثه تلفزيون «العربية» من سلسلة وثائقية بالصوت والصورة في برنامج بعنوان «الأسرار الكبرى لـ(الإخوان) في السودان»، وعلى الرغم من التجربة القصيرة والفاشلة في مصر والتجربة التشاركية المتذبذبة في تونس، فإن جماعة الإسلام السياسي تمظهرت لفترة طويلة من الزمن في كل من إيران في بلاد غير عربية، والسودان من البلدان العربية. وعندما نتابع مخرجات التجربتين تتجسد أمامنا محصلة عقلية واضحة، باعتمادها على «الموروث» في السلطة والبعد عن النظر في «المعاصر» فتسنّ قوانين منفصلة عن المعيش، وهو نوع من الحكم بطبيعته فاقد للقدرة على الاستمرار. وقد وجدنا اليوم أنه في السودان وصل إلى المحطة الأخيرة «ولكن بعد خراب البصرة»، وأنه في أطراف التوسع الإيراني يسير سريعاً إلى نفس الفشل عاجلاً في كلٍّ من العراق ولبنان وآجلاً في طهران. المشهد يتشابه مع اختلاف في

بعض التفاصيل ولكن في الخلفية الجامعة هو متطابق.

لعلنا نلحظ سبعة مدخلات في المشروع السوداني تشرح أسباب الفشل:

أولاً: الانتهازية السياسية، فقد أوضح برنامج «الأسرار الكبرى» كيف تآمرت مجموعة من الضباط في الجيش السوداني معتنقي الفكر الإخواني، مع شريحة صغيرة من المنظّرين والناشطين، للإطاحة بحكومة منتخبة ديمقراطياً في 30 يونيو (حزيران) عام 1989 هي حكومة الصادق المهدي، وكان الإخراج يحمل التآمر مربوطاً بالانتهازية، فقد قرر عمر البشير بلسانه في ذلك الشريط أنه مع حسن الترابي اتفقا على الانقلاب، وحتى لا يثير هذا الانقلاب حفيظة السودانيين في الداخل والعالم في الخارج وجب أن يظهر أنه انقلاب «إنقاذي» يقوم به مجموعة من الضباط لتسلم السلطة لوقت محدد ثم تسليمها إلى حكم شعبي، فكان أن قال الترابي للبشير بعد أن نضجت أمور الانقلاب: «اذهب أنت إلى القصر وأنا إلى السجن». ومن تفاصيل ذلك الوقت أن أول عمل قامت به المجموعة الانقلابية أن وضعت الترابي في السجن. وقتها تم إرسال رسالة قوية بل صارخة بأن الانقلابيين ضد تحكم مجموعة الإسلام السياسي، وظهرت بثوب إنقاذ وطني. ليس ذلك فقط ولكن بعد فترة قصيرة من الانقلاب تمت تصفية عدد من خيرة ضباط الجيش السوداني بتهمة التحضير لانقلاب «بعثي»، «وكان علينا...»، يقول البشير مبرراً كما في الشريط الوثائقي «أن نسبقهم بثمانٍ وأربعين ساعة فقط!». الأهم أنه لا جثث أولئك الضباط ولا قبورهم معروفة، مع ابتسامة صفراء من السيد البشير لمستمعيه في «مجلس الشورى» كأنه يتحدث عن التضحية بمجموعة من الخراف: «في رمضان دفنّاهم وانتهت الحكاية»! طبعاً نعرف أنه بعد فترة أُطلق حسن الترابي وقلة معه من السجن المصطنع وشارك في الحكم في إطار ما سماها وقتها «الجبهة الإسلامية القومية» التي جمعت «كل شياطين الأرض ومن بينهم أسامة بن لادن».

ثانياً: نلحظ في ذلك الشريط الوثائقي كيفية استسهال القفز حتى على القوانين التي تم تشريعها من مجلس لهم الأغلبية العظمى من أعضائه، فيقول في ذلك الشريط نائب رئيس الجمهورية السودانية ونائب البشير علي عثمان محمد طه، إنهم وجدوا أن قانوناً قد سنّوه في التطبيق لم يحقق أغراضهم، فقال في الشريط: «علينا أن نخترق القانون».

ثالثاً: قتل المخالفين خارج القانون؛ فلم تكن التضحية بالضباط في «رمضان» إلا أول طريق القتل المبرمج، وقد وُثق ذلك القتل من خلال إصدار محكمة العدل الدولية مذكرتين في مارس (آذار) عام 2009 ويوليو (تموز) عام 2010 ضد عمر البشير متهماً بـ«خمس

جرائم ضد الإنسانية وجريمتي حرب وثلاث جرائم إبادة جماعية»، وهي تهم لم تجتمع في العصر الحديث وبعد الحرب العالمية الثانية لأحد غير عمر البشير.
رابعاً: عند قراءة أدبيات «الحركة الإسلامية السودانية» و«دستور الحركة» نجد بوضوح بصمات الفكر الانعزالي والتكفيري الذي نظّر له سيد قطب حسين الشاذلي (المعروف بسيد قطب) فنقرأ في الدستور: «مواصلة الحركة الإسلامية السودانية سعيها في نشر الدعوة ورد الحاكمية لله تعالى في الدولة والمجتمع... لتحقيق النهضة الشاملة للأمة...»، والأمة هنا هي عامة المسلمين في الشرق والغرب! كما نقرأ: «لقد أصبح لنا حضور في جميع مؤسسات التعليم العالي والعام... والنقابات والاتحادات...». ويصف دستور الحركة بأنها «ربانية... اجتهادية... دعوية... جهادية... شورية...»، وهي، أي الحركة، «تقدم النموذج الإنساني لقيادة الإنسانية إلى عالم تسوده قيم الحق والعدل والخير...». في هذه الأدبيات، وهي كثيرة أيضاً متوفرة على الشبكة العالمية، الكثير من الكلمات الطيبة. والحق يقال إن قيادات الحركة كانوا مفوّهين في اللغة ومستخدمين أكثر الألفاظ شمولاً وغموضاً، كما قال نائب الرئيس في ذلك الشريط الوثائقي: «نملك الآن القرآن والسلطان». ولكنها في الوقت نفسه الأكثر عنفاً وفجوراً مع أي مخالف لها، فلم تكن لديها حرمة لا للنفس ولا للأعراض ولا لأموال ولا للدماء!

خامساً: بما أن الحركة «عالمية» فقد استقطبت عدداً من المريدين، ومنهم مَن توسّل الدين وتمتع بحفظ بعض النصوص كي يزف - كما أشار الشريط الوثائقي - بشائر النصر «للدولة الراشدة»، وكما قال في الشريط: «لا بأس من التنازل عن بعض المبادئ من أجل الحفاظ على الحركة»، وهنا الوسيلة - كما قال ميكافيلي - أهم من الغاية، في معاكسة تامة للأثر أن «الوسيلة جزء من الغاية»!
سادساً: لقد قام «الإنقاذ» بشطب اتفاقية الميرغني – قرنق للسلام، وقد توصل إليها الحكم الديمقراطي السوداني مع الجنوب. وبعد حرب ضروس، قالت منابر الحركة في مساجد السودان: «إن الملائكة تحارب معهم». بعد تلك الحرب عادت المجموعة الحاكمة لا إلى تلك المعاهدة بل إلى تقسيم السودان، وأيضاً إشعال على الأقل خمس حروب استحق معها الرئيس أن يكون في نظر العالم «مجرم حرب».
سابعاً: لعل من تناقض مسار التاريخ أن يُظهر الشريط الوثائقي عمر البشير وهو يحذّر من احتمال نهاية حكم الإنقاذ، ويشير إلى سقوط الاتحاد السوفياتي وأنظمة شمولية أخرى، إن «لم نقم بالاتصال بالقواعد الشعبية». وقد حاول ومن معه في «مجلس الشورى» أن يتوسل العديد من الخطوات، وهي في مجملها مجموعة من المناورات البهلوانية في الداخل والخارج التي كان يعتقد أنها يمكن أن تطيل فترة الحكم، ولكن المؤسف في الأمر أنه لم يستطع ومن معه معرفة حقائق العصر، فأُريقت دماء كثيرة في السودان، وتراق دماء في غيرها من البلدان، مطاردةً سراباً هو فقط في عقول البعض وقد عشش وأفرخ.

آخر الكلام:
تقديم الجناة من العصبة السودانية التي حكمت واستباحت دم السودانيين وحرياتهم لمحاكمات عادلة وكشف عوراتها الفكرية هو الضمان ألا تُعاد تلك التجربة.