حسن مدن

تربينا على المقولة، التي نحسبها صحيحة، «إن التاريخ يكتبه المنتصرون». كل المنتصرين كتبوا التاريخ، أو بالأحرى أعادوا كتابته، بما يزيّن انتصارهم، ويُسخّف، وحتى يُحقّر، من ألحقوا بهم الهزيمة، وقد يبلغون حدّ تسخيف التاريخ المكتوب قبل انتصارهم، واختراع «تاريخ» بديل، على «الرعية»، كما على الأقوام الآخرين أيضاً أن يصدقوه.
كم عدد الناس الشغوفين بالتنقيب في التاريخ و«استجلاء» الحقائق فيه أو «استنطاقها»، وتصنيف ما فيه من صفحات «بيض» وأخرى «سود»، وربما رمادية أيضاً، إن صحّ بالطبع أن تكون الحقيقة رمادية، ولا نحسب أن ذلك يصح، ولكن يمكن للتاريخ نفسه أن يصبح رمادياً إذا كان كاتبه من هواة «الرمادية» في الموقف؟

مهما كبر عدد هؤلاء الشغوفين بالتاريخ، فإنه سيظل محدوداً وسط الأغلبية الساحقة من الناس المعنية بحاضرها، وبكيفية تدبر أمور معيشتها، ولا وقت لديها لكل هذا، ويمكنها أن تصدّق المروي لها من هذا التاريخ، في البيت والمدرسة والجامعة والجامع، وبالتالي فإن «التاريخ» الذي كتبه المنتصرون، وكما تدل التجارب في كل زمان ومكان، قادر على أن يتسيّد لفترات تطول وتقصر تبعاً للحقبة الزمنية التي تظل سلطة المنتصرين باقية.
حين تتداعى الدول والممالك، حسب الدورة الخلدونية الشهيرة، أو حسب أي معيار آخر، إما بالثورات عليها أو بغزو الأراضي التي عليها أقيمت، ويأتي إلى الحكم «سادة» جدد، يلغى ما كان سائداً من تاريخ، أو على الأقل تمحى منه الكثير من الصفحات، ليحل محله تاريخ جديد أو تضاف إلى ما كان مستقراً صفحات جديدة، كأن التاريخ أعيدت كتابته، ولنا أن نتخيل، بعد ذلك، عدد المرات التي أعيدت فيها هذه الكتابة عبر العصور.

هنا الإشارة إلى أن التاريخ يمكن أن يكتبه المنهزمون أيضاً، وليس المنتصرون وحدهم. هذا على الأقل ما يراه الكاتب علي الشدوي في مقدمة كتابٍ له تحت عنوان «إمبراطورية الخيال والإمبراطورية العربية»، وفيه يرى أن العمل الأدبي الشهير في تاريخنا: «ألف ليلة وليلة» الذي ألهم كتاباً كباراً من مختلف الثقافات، هو «الحياة الأخرى للإمبراطورية العربية».
تلفت «ألف ليلة وليلة» انتباهنا، من وجهة نظر الشدوي، إلى أن التاريخ جنس من الأجناس الأدبية، وإذا كان كذلك فيجب ألا يُحرم من المخيلة والهراء والفظاظة والمبالغة والهزيمة التي تشكل المادة الأولية للأدب. وفي تفسير ذلك نقرأ ما يفهم منه أن الكتابة إذ تبعث الحياة في المشاعر، تكون قد بعثت الحياة في المنقضي من الزمان، ولكن في الحكايات فقط.