علي العميم

لا تتوفر صلة أو آصرة – كما اعتقد أحمد الواصل – بين كتاب محمد حسن عواد (خواطر مصرّحة) وكتاب هاشم عبد الله (جزيرة العرب تتهم حكامها) وكتاب عبد الله القصيمي (هذي هي الأغلال)، لا في الموضوع ولا في الغاية من تأليفها.
في تعريفه بالكتاب الأول يقول أحمد: لقد شهد عواد ذروة الصراع بين انهيار العهد الهاشمي وبداية العهد السعودي في إقليم الحجاز وقدم موقفاً من الثقافة والاستعمار والمستقبل.
وعلى غير ما يقول، لا أثر لذلك الصراع في الكتاب. والكتاب أصلاً، لم يتعرض لا للعهد الهاشمي ولا للعهد السعودي. كما أنه لم يقدم موقفاً من الاستعمار. والموقف الذي يعنيه أحمد هنا في كلام سابق له هو الموقف المصارع.
الأستاذ محمد حسن عواد ذكر الاستعمار في مقالة واحدة من مقالات كتابه في سياق مناقشته لقول يختلف هو معه. صاحبه - كما قال عنه - كاتب كبير من كتاب مصر، لا يتذكره. هذا القول هو: «إن سبب تأخر العرب في ميادين الحياة هو بالأكثر ضغط الأوروبيين على مواهبهم ضغطاً طبيعياً، كان أثراً من آثار الاستعمار هؤلاء لبعض بلادهم».

ومما يلفت النظر في هذه المقالة عنوانها. فعنوانها هو: (الخليج العربي). وهذا يشير إلى أن بعض الكتاب العرب كانوا يستعملون هذه التسمية في عشرينات القرن الماضي.
يتحدث الصحافي والكاتب عبد العزيز الخضر في كتابه (السعودية: سيرة دولة ومجتمع) عن محمد حسن عواد وعن كتابه (خواطر مصرحة) فيقول: «يشير الكثير من النقاد بإيجابية لدور العواد التحديثي، حيث ظل في نظرهم في صدام حاد مع هذا الواقع في أشكاله وصوره المختلفة، داعياً إلى الثورة على كل قديم في الفكر والحياة، والأخذ بأساليب النهضة الحديثة والانفتاح على حضارة العصر. وقد أخذت أفكار العواد الجريئة وأسلوبه اللاذع والساخر المجتمع بالدهشة والصدمة، وألهبت عليه الأوساط الدينية والمحافظة، وكان ذلك سبباً في تركه وظيفته في مدرسة الفلاح ذات الأسبقية التاريخية في تاريخ التعليم، وكاد يعرضه لعقوبة السجن. غير أن (خواطر مصرحة)، من ناحية أخرى حظي بإعجاب عدد من الأدباء مثل محمد سرور الصبان الذي قال عنه: إنجيل الثورة الفكرية. ووصفه عبد السلام الساسي بأنه ثورة إصلاحية على الأدب والمجتمع، وشبهه محمد عالم الأفغاني بالديناميت في عنف ثورته. ومن يعد اليوم إلى فكره وفلسفته في التنوير يجدها متجذرة في هذا الكتاب الذي أصبح علامة على شخصية العواد، وعلى فكر مرحلة مهمة من مراحل النهضة الأدبية في المملكة».

هكذا استهل عبد العزيز الخضر حديثه عن محمد حسن عواد وعن كتابه، ليقدم رؤية مختلفة عنه لا تتفق مع رؤية كثير من نقاد ودارسي الأدب السعوديين المثمنة لهذا الرائد. ومما يعجب له أن هؤلاء لم يناقشوا عبد العزيز في رؤيته المختلفة له!
بعد سنتين أخرج الناقد حسين بافقيه كتاباً عنوانه (خواطر مصرحة، يليه رد يوسف ياسين). في هذا الكتاب حرر الطبعة الأولى من كتاب عواد الصادر في عام 1926، وقدم له بدراسة نافذة وجديدة في معلوماتها وفي رؤاها.
الطبعة الأولى من هذا الكتاب كانت طبعة نافدة. وكانت كثرة من دارسي الأدب السعودي ومؤرخوه ونقاده يعتمدون على طبعته الثانية التي أعاد محمد حسن عواد إصدارها في عام 1961، والتي كما أشار حسين في دراسته حذف منها وأضاف إليها من دون أن ينبه القارئ في مقدمته الجديدة لها إلى ما صنعه. وهذا هو الذي ضلل أولئك في معلوماتهم عن الكتاب.
في مقدمته للكتاب يضعك حسين بافقيه في الجو الديني والسياسي والاجتماعي والأدبي في الحجاز من أواخر القرن التاسع عشر إلى إصدار محمد حسن عواد الطبعة الثانية من كتابه عام 1961، مؤرخاً لتحولاته ولأجياله. ومقدماً لمحات عن تاريخ السلفية ومصادرها في الحجاز قبل العهد السعودي.

وعلى خلاف ما يرى أحمد الواصل في كتاب (خواطر مصرحة)، يرى حسين بافقيه أن «ثلاثة كتب عبرت عن مولد الثقافة الحديثة والمثقف الحديث في الحجاز: أدب الحجاز 1344هـ = 1925، والمعرِض 1345هـ = 1926، وخواطر مصرحة 1345هـ = 1926، الأول والثاني حررهما محمد سرور الصبان – كبير ذلك الجيل - وشارك فيهما كوكبة من الشبان... ثلاثة الكتب هذه تمت إلى بعضها بنسب وآصرة، ذاعت في الناس في زمن قريب، وثلاثتها تعتزي إلى الثقافة الحديثة والأدب الحديث، ويظهر فيها ولا سيما (أدب الحجاز) و(خواطر مصرحة) ثورة على قديم العلم والأدب في الحجاز، وعلو الصوت، واطراح ما عند الأشياخ، والمبالغة في الطعن عليهم، أما مكان الطبع فالقاهرة وليس مكة المكرمة، وكأن الصبان وعواداً وشبان الحجاز رموا إلى بت علائقهم بمطبعتي مكة المشهورتين: الميريّة (الحكومية) والماجدية (الأهلية)، فكلتا المطبعتين نشرت كتب الأشياخ ولعلهما لا يتحملان ثورة الشبان، أما مطابع القاهرة فعسى أن تعني اللحوق بقافلة النهضة والتحديث والاستنارة».
الاعتقاد الشائع قبل مقدمة حسين بافقيه أن المقال الأول في كتاب محمد حسن عواد (مداعبة مع العلماء) الذي تضمن نقداً لاذعاً لعلماء الدين المقصود به علماء السعودية السلفيون، وفي اعتقاد آخر أن المقصود به علماء الحجاز في عهد الأشراف.
بعد أن يورد فقرات من نقد محمد حسن عواد اللاذع لعلماء الدين يسأل: من العلماء الذين عناهم في مقالته (مداعبة مع العلماء)؟
يجيب عن سؤاله هذا بأن «مقالته هذه تشبه من وجوه شتى الفصول العنيفة التي كتبها الشاعر التركي المتمصر ولي الدين يكن، وفيها أشبع العلماء الدين سباً وشتماً. وعواد لا يخفي إعجابه به، وإنه ليخصه بفصل في كتابه، كله إعجاب وتنويه بفضله، وولي الدين يكن ضاق بمجتمعه، وأعلن في غير مواربة، خروجه، وجبه الناس باحتقاره لما أخذوا به من أمر الدين، وعواد لم يبلغ، في سخطه وعنفه، هذا المبلغ، وإن في كلماته ما يكشف عن إجلال للدين، أما علماؤه فقد نالت مقالته منهم، فوق ما يتحمله الحجاز!».
في تفنيد الاعتقاد الأول يقول حسين بافقيه: «تاريخ إنشاء مقدمة الكتاب رأس السنة الهجرية 1435هـ، وذكر عواد في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب أن تاريخ كتابته يرقى إلى سنة 1344هـ = 1926، وذلك يعني أن عواداً لم يعن بثورته علماء الوهابية، لأنهم لم يلقوا عصاهم، بعد، في الحجاز، وبخاصة مدينة جدة حيث يعيش عواد، ولا أحسبهم هبطوا جدة حتى ذلك الحين، لأنها لم تستسلم للسعوديين إلا قبل إنشاء المقدمة بأشهر يسيرة لا تكفي لكي يعرف عواد علماء الوهابية، دع عنك أن يشبعهم سخرية وذماً، ولا أظنه بمستطيع ذلك، ولو أراد».

ثم يسأل حسين: هل عنى محمد حسن عواد بفصله ذلك علماء الدين من أشياخ الحرم المكي الشريف؟

وفي تفنيد هذا الاعتقاد يقول: «لا أظن ذلك. صحيح أن محمد سرور الصبان في (أدب الحجاز)، ألقى بتبعة تأخر الحجاز على الذين قالوا إنهم علماء، دون أن يسمي أحداً، ودون أن يبلغ في الذم والسب ما بلغه عواد. وصاحب (خواطر مصرحة) ابن مدينة جدة، ولد فيها، ونشأ في ربوعها وغشي مدارسها، ولا نعرف أنه اختلف إلى حلق العلم في المسجد الحرام، وحين هبط مكة كان ذلك بعد سن الطلب، اتصل بجمهرة من شبان الحجاز ممن استهواهم الأدب الحديث والثقافة الحديثة، لا بأشياخ المسجد الحرام ومدرسيه». ثم يسأل حسين بعد تفنيديه لذينك الاعتقادين الشائعين: من هم العلماء الذين كال لهم الذم باليمين والشمال؟

يجيب عن سؤاله الأخير بقوله: «الذي أميل إليه أن عواداً عنى رجال الطرق الصوفية ممن تناثرت زواياهم في الحجاز، وكان لها حيث يسكن في جدة تاج وصولجان، يقوي ذلك أنه يقول لأولئك العلماء: ولكن أفكاركم؟ أين أفكاركم وعقولكم؟ أليست موجودة في رؤوسكم؟

لماذا خلقت رؤوسكم؟ هل خلقت لتملأوها تبغاً ونشوقاً، وتضعوا عليها عمائم عظيمة وقلنسوات خيزرانية؟ كلا لا أظنها خلقت لهذه الأشياء».
يعلق حسين على قوله هذا للعلماء بأن «التبغ والنشوق أولع بهما طوائف من المتصوفة. وفي تلك الحقبة التي شهدت أواخر العهد العثماني في الحجاز، وفي عهد الحسين بن علي، وبينما ازدهرت الطرق الصوفية، جعل الناس يسمعون نقداً للتصوف والطرقية، بدأ ذلك خفية وهمساً، ثم أنشأ يستعلن شيئاً فشيئاً في غير قوة، وألف المجتمع سماع من ينكر عليهم ما هم فيه من تعلق بالأولياء والكرامات، وما هي حتى عرفت جدة سبيلها إلى السلفية، يدعو إليها الأفندي محمد حسين نصيف وعبد القادر التلمساني، وكلا الرجلين ضرب بسهم وافر في الدعوة إلى السلفية ونشر كتبها، منذ أواخر العصر العثماني في الحجاز».

في الأيام الأخيرة أنزلت مقابلة نادرة مع محمد حسن عواد على قناة في «اليوتيوت» أجراها معه الكاتب والمثقف محمد رضا نصر الله في عام 1979، ضمن برنامجه «الكلمة تدق ساعة» الذي كان من برامج التلفزيون السعودي الشهيرة في تلك الآونة. في هذه المقابلة التي استغرق الحديث عن كتاب (خواطر مصرحة) جزءاً كبيراً منها، قال محمد حسن عواد إن الذين رفضوا الكتاب هم طبقة علماء الدين لأنه هاجمهم بصراحة في كتابه. وذكر مقالته (مداعبة مع العلماء) وشدد على أنه يقصد بها علماء الحجاز بالذات.
ما قاله صاحب الشأن محمد حسن عواد في هذه المقابلة التي أجريت عام 1979، يتفق مع ما قاله الناقد والدارس حسين بافقيه عام 2012م في شق ويخالفه في شق آخر. الشق الذي يتفق معه فيه أنه لا يعني بالمقالة علماء الوهابية، والشق الذي يخالفه فيه أنه يعني بها علماء الحجاز ولا يعني بها رجال الطرق الصوفية في الحجاز.

إنني أتفق مع ما قاله الناقد والدارس، ولا أتفق مع ما قاله صاحب الشأن، استناداً إلى هذه الأسباب.
أولها، أن صاحب الشأن غير دقيق في رواياته، فهو قد قال عن رد يوسف ياسين على كتابه إن يوسف ياسين في رده اغتنم دعوته للأسلوب التلغرافي التي نقلها عن سلامة موسى، للطعن فيه، بذكر أن سلامة موسى ملحد وقبطي!
بمراجعة مقالات يوسف ياسين العشر التي كتبها باسم «قارئ» رداً على كتاب محمد حسن عواد والتي أثبتها حسين بافقيه في طبعة كتاب عواد الجديدة، بعد ثمان وثمانين سنة من نشرها في صحيفة (أم القرى) لم أجد تعريضاً بإلحاد سلامة موسى وقبطيته. بل هو يجهل إلى أي بلد ينتمي سلامة موسى. ففي إحدى مقالاته اعتقد أنه سوري، وأنه أديب مهجري مثله في هذا مثل جبران خليل جبران! وللحديث بقية.