حلمي النمنم

يقوم العمل السياسي على التداول، ومن ثم فهو يحتمل النصر والهزيمة، النجاح والإخفاق، فما إن يتقدم طرف لفترة أو لمرحلة، حتى يستعد طرف آخر، وفي عمليات التداول تلك والمعارك السياسية هناك قواعد عامة، منها: عدم التجاوز لفظاً أو فعلاً، حتى لا تدخل العملية برمتها في دائرة المحظور، ولذا عرف النقد العربي ما يسمى «الأدب السياسي» و«الخطابة السياسية».

ففي ذروة الحركة الوطنية المصرية، لم نجد مصطفى كامل ينطق بكلمة بذيئة في حق خصومه وكانوا كُثراً، وكذلك الأمر بالنسبة لرجال في قامة سعد زغلول وعدلي يكن وغيرهم، ولما استعمل سعد زغلول مرة مصطلح «برادع الإنجليز» في حق بعض خصومه، أخذها عليه كثيرون، ولم يرددها ثانية.

لكننا - الآن - نجد في الساحة السياسية أسماء تظهر، ليس لدى أصحابها سوى كلمات بذيئة منافية للأدب، وما إن تحل بهم بوادر الهزيمة، حتى ينسحبوا نهائياً من الميدان، وبالتعبير الدارج «فص ملح وداب».

إن هؤلاء لا يكون ميدانهم الشارع وقضايا المواطنين، هم يعيشون في عالم سوشيال ميديا ورواده، وهو عالم افتراضي، وفضلاً عن ذلك فهو عالم أحادي، البطل فيه يعيش منفرداً مع شاشته، تطبع صوره وكلماته وربما صوته أيضاً، وهكذا يمكن أن تجد بعضهم ينقلب من النقيض إلى النقيض، ولا يكون هو نفسه طوال الوقت، وهؤلاء يتصورون أن من حقهم قيادة المجتمعات وتحريك الشارع، وحين لا يتحقق لهم شيء مما يتوقعون، منهم من يدخل مرحلة الهذيان والهلوسة، ومنهم من ينطوي ويختفي.

جغرافياً، يقيم معظم هؤلاء خارج بلادهم، في أوروبا أو الولايات المتحدة، ومن هناك يتحدثون ويتحركون، والمفترض أن يكون السياسي بين مواطنيه، في الشارع وداخل مجتمعه، يتحمل معهم كل شيء ويشعر بهمومهم ويعايش واقعهم جيداً، وليس مجرد سائح ينظر إليهم من علٍ.

في الواقع لسنا بإزاء سياسيين حقيقيين، بل بالونات تتبدد مع أهون شكة دبوس، فهؤلاء يدخلون هذا الميدان من باب الموضة مثلاً أو من باب الارتزاق، وربما يدخلون من باب الابتزاز، وقد عايشنا من ذلك الكثير في العقد الأخير.

إن هذه الحالات والظواهر المرضية تلوث الفضاء السياسي والاجتماعي، ولا تسمح بقيام حياة سياسية سليمة، تقوم على الحوار والجدل، فضلاً عن إفراز عناصر جيدة يمكن أن تقدم ما هو مفيد، وتمنح المواطن قدراً من الثقة بالعملية السياسية برمتها.