فواز العلمي

بشكل لافت للانتباه، أجمعت التقارير الدولية على أن تضخم الديون السيادية أصاب معظم الدول الأكثر ثراء في العالم، حيث حذر معهد التمويل الدولي في نهاية عام 2019 من ارتفاع هذه الديون إلى مستويات قياسية خطيرة بلغت 252 تريليون دولار، لتتجاوز قيمة الناتج العالمي الإجمالي بأكثر من ثلاثة أضعاف. وقال المعهد إن حجم الديون السيادية نسبة للناتج المحلي الإجمالي ارتفع بشكل مخيف في الربع الأخير من عام 2019، لتصل هذه النسبة إلى 258 في المائة في اليابان، و119 في المائة في فرنسا، بينما فاقت 105 في المائة في أمريكا و68 في المائة في ألمانيا و56 في المائة في قطر، التي كانت وما زالت تتفاخر بأنها الدولة الأكثر ثراء عالميا نتيجة ارتفاع متوسط دخل الفرد فيها.
وفي الصين، ثاني أكبر اقتصادات العالم، أكدت هذه التقارير أن تفاقم حجم إجمالي الديون السيادية كان نتيجة حجم القروض الممنوحة من خارج القطاع المصرفي الرسمي، أو ما يسمى بمصارف الظل، وأيضا بفعل تأثير المضاربة العقارية، ليصبح حجم ديون الصين السيادية 28 تريليون دولار.

ولعل ما يثير الانتباه حقا أن التخلف عن سداد هذه الديون أصاب أيضا عديدا من الدول الثرية، حيث تخلفت خلال القرنين الماضيين 83 دولة عن دفع ديونها السيادية الداخلية والخارجية وأشهرت إفلاسها، كان من ضمنها ألمانيا واليابان وبريطانيا والصين، إلى جانب 14 دولة أوروبية و22 دولة إفريقية و15 دولة آسيوية و13 دولة في أمريكا الشمالية والجنوبية.
هذا في الوقت الذي احتلت فيه فنزويلا وبيرو والإكوادور المرتبة الأولى في قائمة أكثر الدول وقوعا في الإفلاس، بعد أن أعلنت إفلاسها عشر مرات منذ عام 1816، وجاءت كل من البرازيل والمكسيك وأوروجواي وتشيلي وروسيا وإسبانيا في المرتبة الثانية بعد إعلان إفلاسها تسع مرات. كما حققت ألمانيا المرتبة الثالثة بعد إعلان إفلاسه ثماني مرات، ثم أمريكا بواقع خمس مرات، لتتبعها الصين وبريطانيا بواقع أربع مرات واليابان مرتين. وبالنسبة لثراء الأفراد، أكد تقرير “مجموعة بوسطن الاستشارية”، الصادر في نهاية العام الماضي، ارتفاع عدد أثرياء العالم بنسبة 12 في المائة، لتفوق مجموع ثرواتهم 125 تريليون دولار، وزاد عدد الذين يملك كل واحد منهم أكثر من مليار دولار إلى 1210 أثرياء. وأشار التقرير إلى أن عدد الأثرياء في الصين تضاعف من 45 إلى 115، بينما ارتفع عددهم في روسيا إلى 31 ثريا. وهذه هي المرة الأولى منذ عشرة أعوام التي يزداد فيها عدد الأثرياء في قارة آسيا عن نظرائهم في أوروبا في انتقال مثير للثروة.
وأوضح التقرير أن استثمارات أثرياء العالم حققت المرتبة الأولى في تداولات الأسهم بنسبة 33 في المائة، تليها استثماراتهم في العقار بنسبة 29 في المائة ثم في الخدمات بنسبة 14 في المائة. وجاءت أمريكا في مقدمة دول العالم لأكبر شريحة من الأثرياء، لترتفع نسبتهم إلى 29 في المائة من عدد أثرياء العالم، بينما جاءت الصين في المرتبة الثانية بنسبة 10 في المائة، ثم أثرياء أوروبا بنسبة 6 في المائة. واحتلت سنغافورة المرتبة الأولى في كثافة الأثرياء بنسبة فاقت 15 في المائة من عدد السكان. كما ارتفع عدد الشركات الدولية، التي تعمل في قطاع الخدمات المالية إلى 147 شركة، لتستحوذ على 40 في المائة من الاقتصاد العالمي وتتركز أغلبيتها في الدول المتقدمة.
وطبقا لدراسة أجرتها شركة “ماكينزي” شملت 80 في المائة من دول العالم، ارتفعت ديون الشعوب بنسبة 74 في المائة نتيجة الرهون العقارية، لتفوق قيمتها في العالم 40 تريليون دولار في عام 2019، بينما ارتفعت ديون الشركات إلى 56 تريليون دولار. كما أكدت هذه المؤشرات أن 2 في المائة من عائلات العالم تملك أكثر من نصف ثروات القطاع الخاص العالمي، و1 في المائة من هذه العائلات تملك بمفردها 35 في المائة من الأصول العالمية، التي تعادل 57 في المائة من مجموع الناتج المحلي الإجمالي لنحو 63 دولة من الدول الأكثر فقرا في العالم.

ومن المحزن حقا أنه في الوقت الذي أنفق فيه أثرياء العالم 47 مليار دولار لشراء منتجات التجميل، و66 مليارا لتناول الآيس كريم، و81 مليارا لشراء العطور، وصل عدد فقراء العالم في العام الماضي إلى 1,2 مليار نسمة، يعيش كل واحد منهم على أقل من دولار واحد في اليوم للبقاء على قيد الحياة.
كما أنه في الوقت الذي أنفق فيه أثرياء العالم 93 مليارا على أغذية الحيوانات الأليفة، و154 مليارا لشراء السجائر، و212 مليارا لتعاطي المشروبات الكحولية، و400 مليار لشراء المخدرات، توفي ستة ملايين طفل خلال العام الماضي من سوء التغذية قبل بلوغهم سن الخامسة، وذهب أكثر من 300 مليون طفل إلى النوم جوعى كل يوم.
هذه المؤشرات الخطيرة الصادرة عن المؤسسات المالية العالمية أوضحت أن معظم ثروات أغنياء العالم في الدول المتقدمة كانت ناتجة عن استثماراتهم في الممتلكات العقارية والأصول التقنية الثابتة والمؤسسات المالية والقطاعات الخدمية، التي تستفيد من أحكام العولمة لتتخطى الحدود وتستنزف خيرات الشعوب.

لقد حان الوقت لكي تقتنع الدول الثرية بأن أحكام العولمة لا تخولها استباحة مبادئ الحرية الاقتصادية على حساب العدالة في تحرير الأسواق التجارية، ولا تمنحها حق استنزاف خيرات العالم لانتشال أنقاض سياساتها المالية. كان من واجب أمريكا في العقد الماضي أن تقوم بتنظيم أحكام الرهن العقاري وتقنين القروض التمويلية وتقليص ديونها قبل أن تستشري الفوضى في أسواقها المالية، وكان من واجبات أوروبا أن تتوقف عن تقديم الدعم المادي لصادراتها الزراعية حتى لا تحرم الدول الفقيرة من منافستها العادلة وزيادة إنتاجها الزراعي. وكان من واجب الدول الثرية أن تسعى جادة لفتح مزيد من أسواقها أمام تجارة الدول الفقيرة بدلا من عرقلة انسيابها بالعوائق الفنية والضرائب التمييزية حتى لا تتفاقم أسعار المواد الأساسية والغذائية العالمية.