فهد سليمان الشقيران

منذ تأسيس حركة «طالبان» أواخر عام 1994 بتعاليمها المعادية للعلمنة والدولة المدنية والتحديث، وهي تشكل صداعاً للقوى المحيطة بأفغانستان، وللداخل الأفغاني.
صراعات وحروب خاضتها مع قوى أخرى بدوافع آيديولوجية أو قومية، وحد الإخوان المسلمون الأفغان صفوفهم ونظّموا خلافاتهم من أجل مواجهة هذه الحركة القومية والأصولية في آن. ومحتواها الفكري إشكالي، فهي تتغذَّى على المدد الحنفي الديوبندي، وتعادي نمط الحياة الغربي، وتشترك مع الرجعيات في الموقف من المرأة، والتفسير المغالي للنصوص، والتطبيق الظاهري للفقه والأحكام، وهي ليست سلفية العقيدة، وإنما ماتريدية، نزعة عنفها بعثتها أحداث قومية، وعززتها تقاطعاتٍ مع أفكارٍ راديكالية، تنزع نحو حاكمية نفعية أحياناً على المستوى السياسي، وتطبيقٍ آيديولوجي حاد في الإدارة الداخلية.
يعزو بعض الباحثين تطرفها إلى قوميّتها، أضرب مثلاً بوالي نصر المهتم والشريك المفاوض للحركة في عهد هيلاري كلينتون. يكتب: «من الواضح تماماً أن وضع (طالبان) يختلف عن التصوّر السائد بأنهم يرفضون رفضاً قاطعاً كل ما هو حديث وعصري. غير أن حركة (طالبان) يجب أن يُنظر إليها على أنّها تنظيم فريد من نوعه -لا ينسجم بالكامل مع حركة الأصولية الأوسع. فعندما تولّت (طالبان) السلطة في أفغانستان، أسست نظاماً سياسياً قبليّاً من البشتون مشابهاً لإمارات القرون الوسطى، وخاضعاً للأعراف القبلية بدلاً من التنظيمات البيروقراطية والقانونية التي تحبّذها الأصولية. وللتدليل على مدى اختلافهم (طالبان) عن الأصوليين بشكل عامّ».
مردُّ تحليل والي أعزوه إلى عاملين، أولهما: اهتمامه بالجانب السياسي والقومي للحركة، وهي مهتمة بعرض أسلوبها المرن مع الولايات المتحدة. يتذكر والي من حكم «طالبان» تفجير تماثيل بوذا، بينما لا يركز على الإدارة الوحشية للمجتمع الأفغاني، ومبادئ حركة «طالبان» فيها مشتركات تكاد تكون متطابقة مع تنظيمات دموية أخرى في العالم الإسلامي، وذلك على مستويات التدبير السياسي، والقوانين الحاكمة، والأنظمة المسيّرة ليوميات البشر.


ثانيهما: أن والي نصر رغم جودة وثراء بحوثه عن الحركة الإسلامية، وبخاصة أطروحته حول أبو الأعلى المودودي، لا يرجح «جوهرية العنف» حتى عند المودودي، إذ تأخذه دروب أخرى لفك إشكالية التوجهات الأصولية، يربطها تارة بالأحداث السياسية والحروب الأهلية، أو النزعات القومية، ولا يفضّل التحليل الفكري لنظرية كل رمزٍ يدرسه أو حركة يتطرق إليها. ولهذا تفصيل آخر.
ولكنّ هذه الحركة المتطرفة الإرهابية تعود إلى الواجهة بعد الاتفاق مع أميركا، والذي وصفه ترمب بـ«التاريخي» الذي ستحقق من خلاله أميركا أهدافها الاستراتيجية. ستغادر أميركا أفغانستان وتُبقي على بضعة آلافٍ من الجنود، ضمن خطة ترمب الأساسية، وهذا مشروط بتنفيذ «طالبان» بنود الاتفاق وأهمها الانخراط في حواراتٍ جدية مع الأحزاب والمكونات الأفغانية الأخرى، مع مبادراتٍ أخرى مثل إطلاق مساجين وتجديد الفضاء السياسي عبر الحوارات والالتقاءات، وهذه أهداف أميركية بالأساس، إذ لا يمكن لـ«طالبان» بعد سنواتٍ من دك حصونها وكهوفها وقلاعها أن تعد هذا الاتفاق انتصاراً لها، وإنما هو في مضمونه تحويل لنمط الحركة السياسية الأفغانية.
ما يدفع أميركا نحو الاتفاق رغبتها في تحقيق استراتيجية الخروج من الحروب والصراعات في العالم، بشرط الحفاظ على الأهداف المتحققة.
برأيي أن الاتفاق صعب التحقق، لدى «طالبان» تحديات داخلية شديدة الصلابة، ومن المرجح ألا تفرح الدوحة برعايتها لهذا الاتفاق الذي تنظر إليه بوصفه من مصلحة حليفتها «طالبان». إنَّ طريق العمل السياسي لن يكون معبَّداً، ولذلك فإن الاتفاق وُلد مثلوماً ولا يمكن انتظار نتائجه قريباً، ثمة قوى تستفيد من نفوذ الحركة الجغرافي لتحقيق مكاسب سياسية، كما تفعل باكستان.
أذكّر هنا بحادثة رواها زلماي خليل زادة في مذكراته ربما تشرح ما نتحدث عنه، يقول: «حضرتُ اجتماعاً بين رايس ووزير الخارجية الباكستاني، عبد الستار، كجزء من مراجعة سياسة أفغانستان. وقد أوضحتْ رايس في هذا الاجتماع أن حلفاء (طالبان) في باكستان كانوا يؤوون القاعدة ومجموعات خطيرة أخرى، فأنكر عبد الستار –وعلى نحو مثير للدهشة– وجود أي قواعد إرهابية... أكملتُ النقاش مع عبد الستار في أثناء تناولنا فطوراً خاصاً في فندق (أومني شيراتون) على أمل أن يكون صريحاً معي... سألته: ما الذي تفعله بإنكارك كل هذه الأمور؟ فقال عبد الستار: إن الولايات المتحدة يجب أن تتقبَّل (الواقع)، مؤكِّداً أن (طالبان) وُجِدت لتبقى. واقترح أن نفتح قناة دبلوماسية معها، ونتفاوض عبرها بدلاً من انتهاج سياسة صِدامية. لم يكن عبد الستار ينظر إلى (طالبان) كتهديد أصولي، ولكنه تحدَّث عن النظام بمزيج من الأبوية والتعالي والاشمئزاز؛ كما لو أن جماعة (طالبان) كانت أكثر بقليل من أناس متخلفين مثيرين للشفقة بحاجة إلى المساعدة. وفي مراجعتي السياسية، ركَزتُ على صياغة استراتيجية سياسية لكسر الصلة بين القاعدة ونظام (طالبان) ورعاتهما في باكستان».
رغم تصريحات المتحدث باسم «طالبان» ذبيح الله مجاهد، بضرورة الفصل بين قضيتي أفغانستان وكشمير، غير أن باكستان ترى في «طالبان» ضرورة لها في الصراع مع الهند، تعدّها العصا الغليظة بوجه «الإرهاب الهندوسي».
«طالبان» أمام مآزق كبيرة، إذ يفتح الاتفاق عليها تحديات داخلية وإقليمية، وتحقيق بنود الاتفاق يعني تعويمها، ومن الصعب تراجعها عن أعمالها الإرهابية الكارثية أو تغيير أفكارها الاستئصالية.