عبد الرحمن شلقم

دولة السودان ولدت في زمن سياسي شكل منعطفاً خاصاً في القارة الأفريقية والبلاد العربية. احتلها البريطانيون ودمجت مع المملكة المصرية تحت وصايتهم. الهوية السودانية كانت مثلها مثل الكيان السياسي في حالة قلق كبير. الجنوب المسيحي الزنجي هيمنت عليه نزعة الاختلاف عن الشمال العربي المسلم. منذ البداية بدأ الصراع مع أطراف التكوين. اعتبر أغلبية السودانيين أن العلاقة مع مصر هي تبعية مرفوضة، وعمل سياسيون على الاستقلال بفعل الانفصال، لكن الجنوب لم تغب عن غالبيته نزعة الاستقلال عن الشمال، وكان السلاح خياراً مبكراً من أجل إقامة الدولة الجنوبية. كلف ذلك الطرفين أنهاراً من الدماء وزمناً من الصراع دفع الجميع ثمنه معاناة شاملة. التجربة الديمقراطية التي قادت البلاد عبر سياسيين مخضرمين لم تدم طويلاً، قفز إلى السلطة الفريق إبراهيم عبود بانقلاب عسكري سنة 1958 في حقبة الانقلابات العربية من مصر إلى العراق وسوريا. بقي الجنوب الجرح الذي لم تشفه كل المحاولات السياسية. الشارع السوداني كان القوة السياسية التي لا يبطل فعلها العسكريون الذين لا يغيبون إلا ليعودوا بأسماء ورتب مختلفة إلى القفز على السلطة. نظام الحكم ومشكلة الجنوب شكّلا الوهن المزمن للكيان السوداني منذ ولادته وعبر مسيرته في درب الزمان الطويل. وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم في انقلاب خطط له رجل كل المراحل والأفكار الملونة بطيف إسلامي حسن الترابي ونفذه العميد عمر حسن البشير سنة 1989، شكل فارقاً نقل البلاد إلى مصير مشتعل. انفصال الجنوب بعد حرب امتدت سنين، ومعارك في إقليم دارفور لم تغب عنها الأنفاس العرقية والتدخلات الأجنبية، وتحولت البلاد إلى عش للإرهاب الإقليمي والدولي. كان هناك أسامة بن لادن والإرهابي العالمي كارلوس، وجاء المتطرفون من كل فج إلى الخرطوم.

طرح حسن الترابي مشروعه (الحضاري) الذي يهدف إلى نشر مفاهيم دينية توسعية في البلاد العربية وأفريقيا. في السنة الماضية أُسقط البشير ونظامه بثورة شعبية دامية، لكن موروث نظام البشير والانقلابات السابقة له تغلغل في مفاصل الكيان السوداني وليس من السهل اقتلاعه بتغيير سياسي في هرم السلطة. لم يغب الدم في كل مراحل الصراع على السلطة في السودان. لقد أعدم جعفر النميري عدداً من العسكريين والمفكرين والسياسيين، على رأسهم هاشم العطا، وأمين الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب، والمفكر محمد محمود طه، وأعدم البشير أيضاً عشرات الضباط بتهمة محاولة الانقلاب على نظامه.

ترأس الفريق عبد الفتاح البرهان مجلساً للسيادة مختلطاً من المدنيين والعسكريين ليقود بلداً ما زالت حرائق الصراع المسلح تشتعل في الكثير من زواياه، والوهن الاقتصادي والعقوبات الدولية ومطالبة محكمة الجنايات الدولية بتسليمها عدداً من القيادات السابقة، وعلى رأسهم الرئيس المخلوع عمر البشير. هل يستطيع العسكري القادم من رحم مخاض سياسي شعبي أن يقود البلاد ومعه تشكيلة متنوعة من العسكريين والسياسيين في مجلس السيادة.. هل يستطيع أن يزيح عن كاهل البلاد أثقال سنوات من الحكم العسكري والخبط الآيديولوجي ورواسب العداء مع أطراف إقليمية ودولية؟ لقد اعترف قادة نظام البشير في تسجيلات سرية أذيعت مؤخراً، بأنهم سيطروا على كل مفاصل الدولة وهيمنوا على مقدرات البلاد وزرعوا عناصرهم في كل الولايات السودانية. باشر الرئيس البرهان بتفكيك اللغم الذي صنعته سنوات الحكم العسكري الآيديولوجي مع الخارج. رئيس الوزراء التكنوقراطي أدرك أن العقوبات الدولية على السودان هي القيد الثقيل الذي يغل حركة الدولة ويعيق أي خطة للإقلاع الاقتصادي، حاول أن يعيد جسور التواصل مع الولايات المتحدة لرفع العقوبات التي تفرضها على بلاده، وقبل بتعويض أميركا عن تدمير الفرقاطة كول، وأرسل إشارات إلى الأطراف الدولية بإمكانية تسليم الرئيس السابق عمر حسن البشير وآخرين إلى محكمة الجنايات الدولية.

لقاء عبد الفتاح البرهان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في كمبالا عاصمة أوغندا، لم يكن مجرد حركة علاقات عامة تقربه إلى الولايات المتحدة ، بل كانت خطوة لتفكيك لغم آخر في العلاقات مع دول الجوار. إسرائيل كانت حلقة قديمة في الصراع السوداني - الأوغندي. أذكر أن الرئيس الأوغندي يوري موسيفني في إحدى زياراته إلى ليبيا سأله المرحوم العقيد معمر القذافي عن سبب زيارته لإسرائيل، أجاب موسيفني باسماً: أنتم العرب السبب في زيارتي إلى تل أبيب، حكومة السودان تقدم السلاح إلى جيش الرب الذي يقاتلنا ليلاً في الغابات، يذبح النساء ويخطف الأطفال وينهب كل شيء، نحن في حاجة إلى سلاح نوعي يمكننا من القتال ليلاً وهو تملكه إسرائيل ومن نوعية حديثة ومتطورة، وكذلك زودتنا بخبراء عسكريين لتدريب جنودنا. وأنا أرافق الرئيس موسيفني في السيارة لتوديعه بالمطار لم يخفِ نزعة عنصرية ضد العرب، وتحدث عن سياسات السودان التي تهدف إلى فرض أفكاره وأحلامه على الأفارقة. الرئيس الأوغندي يوري موسيفني له تأثير واسع في شرق أفريقيا، والسودان يعيش مشكلة سد النهضة مع إثيوبيا ويحاول أن يرتق ما قطعته السياسات السودانية السابقة مع الكثير من دول شرق القارة الأفريقية، ويرى في موسيفني عاملاً مساعداً في ذلك. موسيفني أعلن خلال زيارة نتنياهو إلى كمبالا والتقى فيها الرئيس السوداني عبد الفتاح البرهان، أنه يفكر في فتح سفارة لبلاده في القدس، وسيعمل على توسيع التعاون مع إسرائيل في عدد من المجالات الاقتصادية والتقنية. البداية في العلاقات السودانية - الإسرائيلية التي كان عرّابها موسيفني كانت عبور الطائرات الإسرائيلية المتجهة إلى أميركا اللاتينية للأجواء السودانية. السؤال، ماذا سيأخذ البرهان مقابل ذلك؟ هل ستكون أوغندا الجسر المدعوم بقوائم إسرائيلية يعبره السودان إلى فضاء إقليمي ودولي يفتح له أبواب التمويل المالي الدولي لإعادة بناء اقتصاده؟ ربما، لكن الركام المتفجر الداخلي الذي ورثه النظام الجديد في السودان يحتاج إلى عقل وجهد وتكوين سياسي قادر على تأهيل البلاد لخوض معارك إقليمية ودولية ليست بالسهلة. من سخريات الأيام أن تضيّع الأوطان إمكاناتها وترهن مصيرها لأوهام عبثية تتحول إلى ثقل يجعلها رهينة لمن اعتقد حكامها يوماً أنهم قادرون على فرض آيديولوجياتهم وسياساتهم العابرة للحدود عليهم.