شملت مساعي القنصل الأميركي في بغداد خلال بدايات القرن الماضي تسويق الكثير من البضائع والمنتجات الصناعية الأميركية.
وقد عرض الباحث د. خالد السعدون كما بينا، بدايات دخول السينما والساعات والآلات الموسيقية وحقائب السفر إلى العراق، وقد طلبت إحدى الشركات من القنصل عام 1908 مساعدته في تسويق "ماكينات صنع المياه الغازية"! ولا أعرف حجم مثل هذه المكائن، إلا أن القنصل أجاب الشركة بأن بغداد، في تلك الأيام "تخلو من وجود مقاه ومطاعم وحانات مؤهلة لأن تنصب فيها ماكينة لإنتاج المياه الغازية، فضلا عن أن ذلك الصنف من المشروبات لا يروق للسكان"! كما سأل ممثل شركة أخرى القنصل عن إمكانية تسويق "النظارات"، وقد أجاب بعدم وجود نظاراتي في بغداد.
ويشير د. السعدون إلى وجود تقرير آخر معد عام 1911، يقول الباحث، "يفيد بوجود تجارة بالنظارت الطبية يزاولها بعض أطباء العيون والباعة المتجولين في بغداد"، وقد تلقى القنصل كذلك سؤالا عن إمكانية تصدير "الجوارب الحريرية"، وآخر عن "تجارة الزهور" من أحد محلات نيويورك عام 1910، فأخبره القنصل بوجود بائع زهور يدعى "عبدالجبار غلام"، وأضاف القنصل أنه "حين وجد الرجل طلباً متزايدا على سلعته، أخذ يستنبت الأزهار بنفسه لمواجهة ذلك الطلب".
ويدخل د. السعدون أن اسم المتاجر بالزهور يوحي بانتمائه إلى إيران، "ومشهور عن الفرس العناية بالحدائق وما تحويه من زهور وورود".
ورصد تقرير القنصل عام 1909 بداية ظهور المحلات التجارية الحديثة Department Store في المدينة وفي أسواق بغداد ذات الطابع التقليدي، وذلك "بإقدام التاجر محمود الشابندر على فتح متجر هو الأول من نوعه الذي تعرفه المنطقة"، وقد عرف عن الشابندر "تنقله بين إسطنبول ومدن غرب أوروبا على مدى سنين".
عُرفت بغداد عبر التاريخ بالاهتمام بالكتاب، وقد تحدث الكتاب "شذرات بغدادية" عن تجارة القرطاسية والكتب وأدوات الطباعة في العاصمة العراقية، ويتبين من وثائق القنصلية أن الإقبال كان محدوداً على "الصنف العالي من الورق" وأن "الكثير منه يأتي من أوروبا والهند"، وتفاءل القنصل بالتأثير الإيجابي المحتمل لإنشاء خط برلين بغداد على تجارة الورق! وشرح القنصل لتجار أميركا مشاكل المواصلات النهرية في العراق وتأثيرها على حركة البضائع بين ميناء البصرة وبغداد، مبينا كما جاء في حديثه: "أن الزمن اللازم لوصول الشحنة إلى مقصدها النهائي يتراوح بين أربعة وخمسة شهور خلال فصل الشتاء، وبين خمسة وثمانية شهور في فصل الصيف الذي ينخفض فيه منسوب المياه في نهر دجلة بما يؤثر على انسيابية الملاحة، وبناء على ذلك يطلب مستوردو بغداد مدة اعتماد طويلة لتسديد أثمان مشترياتهم، ويشترطون أن يكون الدفع مقابل استلام المستندات التي يسلمها لهم عادة البنك الإمبراطوري العثماني عند وصول الشحنة، وربما يطلبون مدة أطول للتسديد".
ولم تكن الأسواق عام 1908 مشجعة كذلك لتسويق الطابعات الحديثة، وقد شرح القنصل أن "أقل من ست شركات أجنبية عاملة في بغداد تجري مراسلاتها باللغة الإنكليزية، وما عدا ذلك تتم باللغة العربية، لذلك لا سوق في بغداد لآلات كاتبة ذات حروف غير عربية". وقد عدل عن رأيه في وقت لاحق قائلا "إن آلة طابعة عربية الحروف ذات صناعة متينة، ستباع حال وصولها إلى بغداد".
كانت ثمة "اعتبارات أمنية" تحد من سوق آلات الطباعة صغيرها وكبيرها، يقول الباحث: "فسرت رسالة بعثها القنصل العام الأميركي في إسطنبول للقنصل الأميركي في بغداد بتاريخ التاسع عشر من أيلول (سبتمبر) 1908 سر عدم وجود مثل تلك الآلات في بغداد هو تحريم السلطات العثمانية في عهد عبدالحميد الثاني استيراد أية آلة طابعة ذات حروف عربية أو تركية أو أرمنية أو يونانية إلى أراضي الدولة العثمانية، وحين قام الانقلاب الدستوري في تموز (يوليو) 1908 بادرت الحكومة الجديدة لإلغاء ذلك القانون، وأفاد القنصل العام أنه جرب بنفسه حقيقة ذلك الإلغاء، حيث أدخل آلة طابعة ذات حروف عربية لمصلحة الكلية الأميركية في إسطنبول".
وأوضح القنصل أن اللغتين المستخدمتين في المراسلات التجارية في المدينة هي العربية والعبرية، "لذا يصعب تسويق أية آلة طابعة ذات حروف غير حروف تينك اللغتين"، ولم يشرح القنصل أو الباحث بوضوح سبب أهمية اللغة العبرية آنذاك في التجارة والاتصال داخل العراق والتجارة الخارجية.
ماذا عن تسويق كتب الميكانيك والكهرباء والهندسة، "كتب القنصل في 1912 مبينا عدم وجود بائع كتب في بغداد يهتم بمثل تلك الموضوعات، فاللغة السائدة محلياً هي اللغة العربية بينما لغة التعليم في المدارس هي اللغة التركية، واللغة الفرنسية في مدرسة الإرسالية الكرملية- المسيحية- والمدرسة اليهودية، أما الإنكليزية فكانت لغة التعليم في مدرسة جمعية الكنيسة التبشيرية".
ورغم ذلك، عدد القنصل للسائل سبع ممكتبات ومخازن كتب تبيع الكتب الأجنبية وهي:
1- منشي أفندي كتابجي، وكان مخزنه يقع عند رأس الجسر، وهو متخصص ببيع الكتب التركية والعربية والفرنسية، وربما كان مهتما ببيع الكتب الإنكليزية أيضا.
2- جمعية الكنيسة التبشيرية، وهي تبيع الكتب الإنكليزية والعربية بصورة رئيسة.
3- مكتبة الإرسالية الكرملية، وهي تبيع الكتب الفرنسية بصورة رئيسة.
4- عبداللطيف الثنيان، وهو يبيع الكتب العربية والتركية.
5- جمعية الكتاب البريطانية British and foreign Bible Society وهي تسوق الأناجيل والكتب الدينية المسيحية.
6- مكتبة العراق، وكانت تبيع جميع أنواع الكتب دون تعيين.
7- المكتبة الكلدانية، وهي تسوق الكتب الإنكليزية.
(ص 126- 127)
لم تكن آلات الطباعة والكتب وحدها موضع ارتياب أجهزة السلطان العثماني عبدالحميد، بل امتد الشك حتى إلى الكهرباء وما يتعلق بها من أجهزة عموماً.
ففي عام 1908 كتب القنصل رداً على استفسار شركة أميركية عن إمكانية تسويق منتجاتها من الأجهزة الكهربائية في بغداد بالقول إن الكهرباء محرمة في هذا الجزء من العالم، وإن بعض الشركات الأميركية كانت عام 1913 "تبذل مساعي حثيثة لترغيب جمهور المدينة باقتناء مولودات كهربائية صغيرة لتوفير الطاقة في مبانيهم، وذكر حيثا يتردد عن إنشاء محطة كهرباء كبيرة في بغداد".
وكانت أبرز عقبة مادية في وجه إنشاء محطة الكهرباء، غلاء أسعار الفحم الحجري، فاقترح المستثمر الأميركي استخدام "النفط الأبيض" أي الكيروسين، الذي بدأ يصل عام 1906 الى الأسوق من أميركا وروسيا وعبادان الإيرانية منذ عام 1913.
حيث أشار القنصل إلى وجود ثلاجات تعمل بالكاز أي الكيروسين، ومن الآلات الأميركية التي اقتُرحت للاستخدام في العراق طواحين الهواء، ولكن قيل إن سرعة الرياح ليست بالقوة التي تكفي لتحريكها خلال أشهر الجفاف ما بين أبريل وأكتوبر.
ويقول الباحث إن القنصل الأميركي رصد إقبالا متزايداً على شراء ماكينات الخياطة ماركة Singer الأميركية الشهيرة.
وحرصت القنصلية الأميركية كما هو متوقع على تسويق السيارات إلى العراق، وهو مجال يحتاج إلى بحث مستقل.
التعليقات