أعتقد أن أهم حدث في التاريخ اليهودي بعد نزول اليهودية كدينٍ سماوي هو ظهور عائلة روتشيلد، هذه العائلة التي تحرك السياسة والاقتصاد العالمي، تشعل وتطفئ الحروب حول العالم، تفرض سطوتها على أعتى أنظمة الحكم فيه، تتحكم في العقول والديمغرافية والمستقبل، لها سطوة بشكل أو بآخر على كل كبيرة وصغيرة على ظهر هذا الكوكب، وتقوم بكل ذلك من خلف الكواليس، بعيدًا عن الأضواء، دون أن يعرف أحد الكثير من التفاصيل عنها.

كلمة السر لدى هذه العائلة هو «المال»، حتى قيل: «إذا كان المال إلهًا، فإن آل روتشيلد هم أنبياؤه ورُسله»، فمنذ تأسيس العائلة على يد إسحق إكانان وضعت لنفسها محددات ما زالت تخلص لها بقوة، وهي خدمة المال، وخدمة اليهود، والعمل بعيدًا عن الأضواء.

لقد وصل اليهود إلى قناعة بأنهم لن يتمكنوا من حماية أنفسهم وفرض سيطرتهم على العالم بالقوة والجيوش، ولا حتى بالحضارة والابتكار، وإنما من خلال السيطرة على جيوب الناس ولقمة عيشهم، ودعم ذلك بالدهاء والمكر والسياسة، ولقد فَطِن مؤسس عائلة روتشيلد لهذه الحقيقة مبكرًا، وبحكم عمله في الصرافة وإقراض المال تمكن من أن يصبح جزءًا من حلم كل إنسان في ألمانيا، يدخل بماله فقط، ويصنع المعادلة، ثم يسحب ماله أضعافًا مضاعفة، وقد ربَّى أبناءه الخمسة على نفس الفكر، ثم نشرهم في أوروبا، وربما فاقوه دهاءً ومكرًا، لتبدأ العائلة بعد ذلك بمد أذرعها في الولايات المتحدة، وكل دول العالم تقريبا.

معظم البنوك الكبيرة الناجحة في العالم مملوكة بشكل كامل أو شبه كامل لعائلة «روتشيلد»، إضافة إلى سيطرتها على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومعظم المؤسسات المالية حول العالم، لكنهم يفعلون كل ذلك في الظل، ومن خلال ممثلين عنهم تشاهدهم دائمًا في الصحف وعلى شاشات التلفزة، لكنهم ليسوا أكثر من موظفين عند العائلة.

لقد رسمت هذه العائلة شكل الاقتصاد الحر الذي تعيشه اليوم معظم دول العالم، هذا الشكل الذي يظهر مُطعَّمًا بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن وظيفته الأساسية هي حماية استثمارات «روتشيلد» وجعلها في مأمن من الثورات والمصادرة والتأميم وغيرها، ويظهر هذا الأمر جليًا حاليًا عندما يموت الفقراء بسبب كورونا في دول متقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وإيطاليا لعدم قدرتهم على تحمل نفقات الرعاية الصحية وعدم امتلاكهم لتأمين صحي.

لقد فرَّق الله تعالى اليهود كما لم يفرِّق شعبًا من قبل، وذاقوا المهانة عبر التاريخ، حيث تاهوا في الأرض لأربعين سنة، ثم تعرَّضوا لما يسمى بـ«السبي البابلي» بعد غزو بابل لمملكتهم قبل الميلاد بنحو 600 سنة، وكانوا غالبًا منبوذين من المجتمعات التي عاشوا فيها عبر التاريخ، وصولاً إلى ما تعرضوا له من إبادة على يد النازية. ويبدو أن كل ذلك قد أثَّر تأثيرًا كبيرًا في العقل اليهودي الجمعي، ودفع اليهودي للقيام بكل شيء من أجل إثبات أنه متفوق، وأن اليهود «شعب الله المختار»، وأدركوا أن لا سلطة تعلو فوق سلطة المال، فاندفعوا بجمعه بأي طريقة كانت، وعائلة «روتشيلد» أكبر مثال على نجاحهم في ذلك.

لست هنا في وارد الحديث أكثر عن تاريخ العائلة وكيف رسَّخت مكانتها وأحكمت سيطرتها على العالم عبر الزمن، فهذه المعلومات -وإن كانت شحيحة وبعضها قائم على التكهنات- موجودة في المكتبات وفي الإنترنت و«ويكيبيديا» لمن أراد معرفةً أكثر، لكن استحضرها هنا كمثال على أهمية المال في السيطرة على العالم من جهة، وكيف أدرك اليهود ذلك في وقت مبكر، ووظَّفوه في خدمة دينهم ودولتهم ومشاريعهم من جهة أخرى، وشخصية التاجر اليهودي في مسرحية شكسبير «تاجر البندقية» تُظِهر ذلك بوضوح.

لقد امتلك أجدادنا المال عبر التاريخ، وحوّل الفينيقيون البحر المتوسط إلى بحيرة لتجارة الأخشاب، وازدهرت التجارة عبر طريق الحرير، وكان لقريش تجارة معروفة، والصحابي الجليل عثمان بن عفان كان تاجرًا كبيرًا جدًا بمقاييس ذلك الزمان، وقام الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان بسك أول دينار إسلامي، كما نشطت قوافل التجارة عبر البلاد العربية، وفي العصر الحديث ازدهرت مصر اقتصاديًا وتجاريًا حتى أنها كانت تقدم القروض للحكومة البريطانية، ونحن ننعم خلال العقود الأخيرة بوفرة مالية في دول الخليج العربي نتيجة لعوائد تصدير النفط.

لكن مع الأسف لم يقترن كل ذلك بصناعة مصرفية متقدمة، ولم يمتلك المصرفيون العرب نظرة مستقبلية بعيدة المدى، ولم تظهر شخصية مصرفية عربية أو إسلامية ذات رؤية ثاقبة مثل إسحق إكانان، كما أننا لم نستخدم مواردنا المالية بالشكل الأمثل في مجالات السياسة والعلوم والابتكار، وبقينا في دائرة الانفاق الاستهلاكي كحكومات تخزن الأسلحة أو كأفراد جُلَّ همهم مزيدًا من الإنفاق على الكماليات.

المال لدينا كان دائمًا عُرضة لتقلبات السياسة، والنظام المصرفي المتقدم الذي بناه لبنان في خمسينات وستينات القرن الماضي عصفت به الحرب الأهلية في العام 1975، وها هو الآن يتعرَّض لهزة عنيفة أخرى بسبب الشقاق السياسي الحاصل في لبنان حاليًا، وفي ليبيا كان من أوائل قرارات الحكومة بعد سقوط القذافي أسلمة القطاع المالي والمصرفي في ليبيا، كما تستغل دول عديدة الأنظمة المصرفية لتمويل عمليات الإرهاب وزعزعة الاستقرار في دول أخرى.

لقد آمنت دائمًا بأن الاقتصاد القوي ولقمة العيش الكريمة هما أساس نهضة الأمة، وأنه «ويل لأمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تصنع»، وأن المال هو عصب الاقتصاد، وإذا أردنا مستقبلاً أفضل لنا ولأولادنا من بعدنا علينا إعادة تحديد موقفنا من المال، وهل نريده سَيِّدا لنا يسيطر على أهوائنا وغرائزنا، أم نريده خادمًا مطيعًا نستثمره في خدمة المفاهيم والقضايا الكبيرة التي نعيش وسيعيش أولادنا لأجلها؟

*رئيس مجلس إدارة مجموعة بروموسِفِن القابضة