ساعات قليلة فصلت بين عفو رئاسي مصري عن محسن السكري، قاتل المغنية اللبنانية سوزان تميم، وظهور الرئيس عبد الفتاح السيسي في الحلقة الأخيرة من المسلسل الذي حقق شهرة واسعة “الاختيار”.

ظهر السيسي خلال تصريحات مسجلة مرتدياً الزيّ العسكري قائلاً:”في المعركة دي يا نهزمهم يا نموت…. ما بنخافش، ما بنخافش إلا من ربنا بس، مش هنسمح لحد يدخل مصر تاني يخرب ويدمر فيها”.

مشاهد نهاية المسلسل الذي شدّ ملايين المشاهدين في مصر وخارجها، لم تكن لبطل “الملحمة” التي قام العمل الفني عليها، أي شخصية العقيد أحمد منسي، قائد الكتيبة «103 صاعقة» الذي قضى في كمين مربع البرث في مدينة رفح (شمال سيناء) عام 2017، والذي لعب دوره الممثل أمير كرارة، بل كانت مفاجأة الحلقة الأخيرة ظهور الرئيس المصري بصفته قائداً للقوات المسلحة، وملهماً لكل البطولات، الذي تهون عنده دماء كل الضباط والجنود والمواطنين الذين سقطوا في معارك “الإرهاب”.

إنه الرئيس المصمم على ترسيخ دور المؤسسة العسكرية في صلب حياة ويوميات الإنسان المصري، بصفتها مؤسسة لا تكل عن محاربة الإرهاب والمخربين، وهي أيضاً المسؤولة عن الاقتصاد والصحة والفن والرياضة والصحافة، فالثقافة التي لازمت صعود السيسي باتت تقطع بوجود مؤامرة إخوانيّة في كلّ مكان، وبالتالي وجب مكافحتها عبر مدّ أذرع الجيش وسطوته في كل مجالات العيش.

المغدورة سوزان تميم ورجل المقاولات هشام طلعت

طلعت والسكري

المفارقة أنه وفي نفس اليوم الذي كان فيه المصريون يذرفون الدمع بعد مشاهد نهاية شخصية المنسي ورفاقه في ملحمة درامية مؤثرة على الشاشة، كان الواقع ينقل أخبار عفو رئاسي عن نحو ثلاثة آلاف سجين بمناسبة عيد الفطر ومن بينهم محسن السكّري. والسكّري ضابط أمن أيضاً، وكان مكلفاً من قبل رجل المقاولات المصري المعروف هشام طلعت بقتل الفنانة سوزان تميم، وقد نفذّ مهمته بشكل دموي حين أقدم على طعنها عدة مرات بسكين في مسكنها في دبي عام عام 2008. ومقتل تميم حصل بتخطيط من صديقها السابق رجل الأعمال المعروف والمقرب من دائرة الرئيس السابق حسني مبارك، وحظي بمتابعة واهتمام واسعين انتهى بسجن طلعت والسكري بموجب احكام قضائية وصلت بداية الى الاعدام ثم تراجعت لتصل الى السجن لكل منهما.

وطلعت الذي له تسجيلات أعلنتها المحكمة عن اغرائه للسكري بالمال وقوله عبارات غاضبة عن فشل محاولات قتل سابقة لتميم، حثّ السكري على قتل المرأة الشابة التي يبدو أنه كان مغرماً بها وقرر معاقبتها لتخليها عنه.

تقول بعض روايات جلسات المحاكمة الخاصة بطلعت والسكري أن رجل الأعمال كان طلب من السكري ذبحها، وأن الأخير حاول لكنه لم ينجح لأن سكين القتل لم تكن حادة كافية.

محسن السكري

كتب صحافيون تابعوا جلسات محاكمة طلعت والسكري، أن طلعت كان يكثر من قراءة القرآن خلال المحاكمة، فيما كان السكري صامتاً يتمتم قليلاً وهو يداعب مسبحته، ولكنه أيضاً قرأ القرآن قبل النطق بالحكم في قضيته.

وقبل السكري، كان طلعت قد حظي بعفو من الرئيس السيسي عام 2017، خرج بعدها من السجن، لينخرط مجدداً عبر شركاته في مجال العقارات وليصبح من الدائرة المقربة من الرئيس المصري ويحظى بتغطية وترويج واهتمام إعلامي. البحث عن اسم هشام طلعت عبر موقع “يوتيوب” سيفضي الى مجموعات فيديوهات دعائية له ولمشروعاته العقارية، وطبعاً سيجد مقالات عديدة تمدح مناقبيته ونجاحه و”وطنيته” وسخائه في التبرع لعائلات ضحايا الجيش، وإطلاق أسماء “شهداء الواجب” على عدد من الشوارع والمشروعات والمساجد.

طلعت وقبل أيام من الإفراج عن السكري كان أيضاً محطّ اهتمام بعد ضجة أثارها فيديو إعلان مشروع “مدينتي” السكني الخاص به، وفيه يظهر أشخاص يتحدثون عن مزايا السكن في المشروع، خصوصاً لجهة أنه واقع في منطقة معزولة يعيش قاطونها بعيداً من الازدحام والتلوث والبؤس الذي يرزح تحته ملايين المصريين ما أثار حفيظة كثيرين ضده.

“المكرمات” الرئاسية شملت قاتلاً محترفاً ومحرضاً مليارديراً. إنه سحق غير مسبوق لأبسط معايير العدالة وفكرة المواطنة.

ظهر طلعت حينها عبر اتصال هاتفي مع الاعلامي عمرو أديب، الذي دأب على الدفاع عنه والترويج له حتى في ذروة محاكمته بقتل تميم، والذي انفجر شكراً وحمداً حين أعلن له طلعت عن تبرعات للمرضى. تحدث طلعت في اتصاله بصوت هادئ، فردّ على منتقدي الفيديو الترويجي لمشروعه “مدينتي” بأنه يسلّم أمرهم الى الله: “دي نفوس غير سوية وتشعر بالملل، وجاية تتسلى.. ربنا يهديهم”.

هكذا تتنقل بغرائبية كاملة المتابعات ما بين دراما الواقع ودراما الشاشة، فبالعودة الى مسلسل “الاختيار”، لا شك أن مغازلة المؤسسة العسكرية والسيسي باتت بضاعة رائجة، خصوصاً أن هناك من يوعز بتفعيل السماح بتناول معارك الجيش والأحداث الحقيقيَّة المرتبطة به في الدراما والسينما، وهو قرار يبدو أنه اتخذ بعد نجاح فيلم “الممر” العام الماضي، بعد أن خلف تأثيراً ايجابياً على صورة المؤسسة العسكرية التي تحولت في عهد السيسي من مؤسسة أمنية لها مؤسساتها وسطوتها، الى دولة ظلّ كاملة تشرف على كل المشاريع الحيوية في البلد.

لا شيئ إذاً سوى ثنائية الإرهاب أو الجيش، وأي شيئ يُفسّر وفق هذه الثنائية، وكل ما يحصل يدور حصراً في فلكها ويجري فهمه من بوابتها.

العفو عن القتلة …لا عن المعارضين

لم يفتْ الرئيس عبد الفتاح السيسي صاحب “مكرمة” العفو عن القاتلين طلعت والسكري أن يذهب الى صلاة العيد وأن يستذكر معاني المناسبة الدينية بعد ساعات قليلة من توقيع العفو عن جريمة كانت ستفضي بمرتكبيها الملياردير وضابط الأمن إلى حبل المشنقة.

وتستمر المشاهد، فالعفو السيساوي كان شمل عام 2018 أيضاً واحداً من أخطر بلطجية مصر “صبري نخنوخ”، على رغم إدانته في أشهر قضايا حيازة الأسلحة خلال عام 2012 والصادر ضده حكم من محكمة النقض بالسجن المؤبد عام 2014. خرج الرجل متمتعاً بكامل حظوته، حتى أنه خرق الحظر المفروض بسبب وباء كورونا فأقام حفلة زفافه الصاخبة ولم يتعرض له أحد بالملاحقة.

بالعودة الى “دراما” هشام طلعت، الملياردير المحظي حتى في سنوات سجنه، فقصته تثير الكثير من علامات التعجب. كيف لا وهو قد خرج الى الحرية منذ عامين متمتعاً بأمواله رغم أن محاكمته شملت تهماً بتبييض أموال وفساد، وحاظياً بدعم بطانة الحكم وبانبهار إعلامي به.

وحده الانفصال عن الواقع ما يجعل الملايين يهجسون ببطولات دراما تلفزيونية لضابط مصري، في حين تحل البلادة والصمت حيال الإفراج عن قاتل مأجور.

هشام طلعت ومحسن السكري يعيشان أحراراً اليوم، فيما ترقد المغدورة سوزان تميم في قبرها. ومن سيهتم لعدالة امرأة شابة ابتذل كلام كثير حولها وحول حياتها القصيرة، وها قد مرت بضع سنوات كافية لينسى العالم أمرها، فليعد المقاول الى حظوته، وليخرج الضابط الذابح من سجنه.

لا يتوقف الذهول لحظة لدى متابعة هذه الوقائع، فقبل أيام من الإفراج عن قاتل تميم ظهر في الإعلام المصري صحافي مسيحي يردد كلاماً بدا جلياً أنه ملقن يقول فيه إنه تلقى أموالاً من قناة “الجزيرة” لدعم الإخوان المسلمين.

المشاهد عديدة، ليس آخرها لاستاذة جامعية ممددة في الشارع أمام زنزانة ابنها الناشط الأشهر علاء عبدالفتاح الذي سجن وأذل لسنوات لا لشيء حرفياً سوى أنه جاهر بآرائه الناقدة والمطالبة بالحرية والعدالة.

ما سبق هو بعض من واقع لم يحظ باهتمام يذكر…

“الاختيار”

تقوم فكرة المسلسل الذي اعتبره البعض من أهم انتاجات التلفزيون العربي على فكرة أننا نملك الاختيار ما بين الحق والباطل، ما بين الوطن ومابين الإرهاب والتطرف. شعر مصريون كثر بالفخر بشخصيات مثل بطل “الاختيار” أحمد المنسي، وهذا حقهم طبعاً فالرجل كان على الأرجح محب لبلده ويعمل لانقاذه من تهديدات أمنية، وهو قضى ومجموعة كبيرة من الضباط والجنود، لكن ما يحصل هو حصر مقاربة أي شيئ وفق هذه الجزئية أو الثنائية، وإعاقة كاملة لرؤية المشهد من كافة جوانبه.

قبل أسابيع قليلة ترك الشاب شادي حبش في سجنه ليموت من الألم بعد أن تسمم جراء شرب كحول اعتقد خطأ أنه ماء، لكنه تبين أنه كحول مخلوط بماء لضرورات التعقيم داخل الزنزانة للحماية من وباء كورونا. سجن شادي لأنه أخرج أغنية “بلحة” الساخرة من حكم السيسي. سجن هو وكل من ثبت أن له علاقة بالأغنية.

هناك في مصر بحسب المنظمات الحقوقية 60 ألف معتقل يتعرضون لأنواع مختلفة من الذل والعذاب ومنهم من قضى ولقي حتفه خلف قضبان السجن. فشلت كل الدعوات والمراجعات سواء لأسباب حقوقية أو انسانية أو لأسباب تتعلق بالخوف من انتشار وباء كورونا في الإفراج عنهم، لكن “المكرمات” الرئاسية شملت قاتلاً محترفاً ومحرضاً مليارديراً.

إنه سحق غير مسبوق لأبسط معايير العدالة وفكرة المواطنة.

لقد بلغت كلفة استقرار النظام الجديد آلاف القتلى والجرحى وآلاف المعتقلين وإغلاق آلاف الروابط والأنشطة المدنيّة والحدّ من حرّيّات الكلام والاعتراض والتنظيم، فبات المواطن شخصاً خائناً إن لم يقدم قرابين الولاء والطاعة للرئيس والجيش والشرطة والآن لمسلسل “الاختيار”…

وحده الانفصال عن الواقع ما يجعل الملايين يهجسون ببطولات دراما تلفزيونية لضابط مصري، في حين تحل البلادة والصمت حيال الإفراج عن قاتل مأجور.