يمكن القول إن تاريخ ماليزيا السياسي، ولا سيما منذ وصول مهاتير محمد إلى السلطة عام 1981، حافل بتباين الإرادات والمواقف والتوجهات والذي نجمت عنه سلسلة من الدسائس وبناء التحالفات وفضها وتغير الولاءات وترويج الإشاعات.

صحيح أن المشهد العام كان يوحي بالاستقرار والازدهار الاقتصادي على مدى العقود الماضية، ولكن الصحيح أيضاً أن كواليس المشهد كانت تعج بالخلافات والمناورات والتناقضات بين رموز الحزب الحاكم نفسه وبين هؤلاء وغيرهم من الرموز السياسية.

ولئن تجسدت إحدى أشهر صور تلك الخلافات في واقعة قيام مهاتير بتلطيخ سمعة نائبه وصديقه ومرشحه لخلافته «أنور إبراهيم» والزج به في المعتقل، فإن الصور الأخرى، وهي عديدة، تبرهن على المنحى نفسه وتعززه ومنها الطريقة التي انقلب بها مهاتير على رئيس الوزراء الأسبق نجيب رزاق (ابن الرجل الذي أدخله حلبة السياسة) تحت شعار ضرب الفساد، ثم قيامه في عام 2018 بعقد «تحالف الأمل» مع غريمه اللدود أنور إبراهيم لإخراج حزب المنظمة الوطنية المتحدة للملايو (أومنو) من السلطة.

وكان من شروط هذا التحالف أن يتبادل مهاتير وإبراهيم مقعد رئيس الوزراء بينهما بعد عامين على أن يكون الدور أولاً لمهاتير.

وكما هو معروف، نجح الثنائي في تحقيق انتصار مفاجئ في انتخابات 2018، ولكن ما إنْ اقترب موعد تسليم المنصب إلى إبراهيم حتى قام مهاتير بمناورة تمثلت في تقديم استقالته فجأة في فبراير المنصرم، ممنياً النفس بتكليفه مجدداً والحصول على ثقة برلمانية أوسع كي يسهل عليه التملص من وعوده لإبراهيم. إلا أن الرياح جرت بغير ما تمناه.

إذ قرر ملك ماليزيا أن يتخلص من مهاتير وإبراهيم معاً ويكلف السياسي محيي الدين ياسين بقيادة الحكومة، فقبل الأخير من دون تردد.

والحقيقة أن تولي ياسين السلطة هو أيضاً صورة من صور التمرد والانقلاب، وتباين الإرادات، وتناقض المواقف، وعقد التحالفات وفكها. فالأخير انضم إلى مهاتير وإبراهيم في تحالف الأمل وشارك في مخططاتهما للإطاحة بحزب أومنو، باحثاً عن مقعد متقدم في المشهد الماليزي بعد طول انتظار.

وهو نفسه عمل تحت قيادة ثلاثة رؤساء حكومات من حزب أومنو (مهاتير محمد وعبدالله أحمد بدوي ونجيب رزاق)، وتظاهر بالولاء لهم جميعاً بغض النظر عن سياساتهم المتباينة، قبل أن يتمرد علناً على الأخير، رغم أنه احتل موقع الرجل الثاني في حكومته، ربما إحساساً منه بأن أيام رزاق في السلطة باتت معدودة.

وهكذا شكل ياسين حكومته في مطلع مارس المنصرم على أنقاض حكومة حليفه السابق مهاتير، مستدرجاً إلى تشكيلته شخصيات من حزب أومنو، وحزب «باس» الإسلامي، وآخرين منشقين على تحالف الأمل، ومؤكداً أنه يمتلك الغالبية في البرلمان وبالتالي سوف يحصل على الثقة.

في هذا الوقت كان مهاتير يهدد بإسقاط الحكومة في أول جلسة للبرلمان، مدعياً أنه هو الذي يحظى بأغلبية أصوات البرلمان، ومعلناً أنه عائد للسلطة مجدداً.

وبما أن جلسة البرلمان لمنح الثقة تحدد موعدها في مايو، فقد اضطر مهاتير إلى أن ينتظر أكثر من شهرين لتنفيذ تهديده. في هذه الأثناء استغل ياسين مهلة الشهرين لترسيخ أقدامه في السلطة عبر تهيئة أغلبية برلمانية تنقذه من السقوط.

ويمكن القول إن اجتياح وباء كورونا المستحدث لماليزيا كغيرها من البلدان، وما رافق الحدث من تراجع الاهتمام بالشأن السياسي وتزايد المخاوف والقلق على الصحة وانهيار أسواق المال والأعمال وحظر الأنشطة والاجتماعات المباشرة صبت كلها في مصلحة ياسين. وآية ذلك أن رئيس البرلمان قرر أن تقتصر جلسة البرلمان القادمة على مراسم افتتاح سريعة من دون أي نقاشات أو مساجلات.

وبهذا لن يجري طرح الثقة بالحكومة كما طالب مهاتير. كما أن أعمال البرلمان لم تتوقف مدة ستة أشهر متتالية كي تتم الدعوة إلى انتخابات جديدة (عملاً بمواد الدستور) مثلما تمنى مهاتير وأنصاره.

وهكذا منحت جائحة كورونا المستحدث ياسين القدرة على التنفس، وكذا الفرصة لتعزيز تحالفاته وشراء ولاءات سياسية واقتصادية جديدة. ومن بركات جائحة «كورونا» أيضاً أن زعامة «حزب بيرساتو» المتنازع عليه صعب حسمها ديمقراطياً. وهذا أمر أسعد ياسين، الزعيم الرسمي الحالي للحزب، وأزعج مهاتير الذي تمنى أيلولة المنصب لابنه «مخريز»، علّه يصعد من خلاله إلى زعامة ماليزيا مستقبلاً.

وقد ظن الكثيرون أن حسم الأمر متروك إلى ما بعد التخلص من تداعيات كورونا، ولكن ما حدث في 28 مايو الجاري هو أن ياسين طرد مهاتير وابنه من الحزب في ضربة استباقية غير متوقعة.

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الماليزي من البحرين