تناولت في مقالات سابقة أن ابن رشد، قد اشتهر وحظي عند يوسف أبو يعقوب المنصور وأدناه، وولاه قضاء قرطبة، وكان هذا سبباً كافياً لإيغار صدر الحساد والمنافسين، مما أدى إلى نكبته في صيد جملة زعموا أنه قالها، وقد كان توسعه في العلوم، وتبحره في الفلسفة، وعلوم الأوائل مثل أرسطو وأفلاطون، وتأليفه في التنجيم، مدخلاً للنيل منه، ومالوا إلى السياسة لعلها تكون أداة فعالة في الإطاحة به، فقالوا إنه قد اختص بأبي يحيى أخي المنصور، رغم تقديره له، وتوليته منصب قاضي قرطبة، ولم يملَوا تصيد زلاّته، حتى وجدوا ضالتهم في ورقة قالوا إنه كتبها بيده، وكانت من ضمن أوراق الشروح له عن علوم الأوائل، تتحدث عن النجوم، والآلهة التي كان يعبدها أولئك القوم، أيام الحضارة اليونانية وقال «فقد ظهر أن الزهرة إحدى الآلهة» ويقصد التي يعبدونها، لكنهم أخذوا هذه الوريقة فقط، وحملوها إلى المنصور، معزولة عن بقية الأوراق الأخرى.

خشى المنصور فتنة العامة، فجمع العلماء بما فيهم ابن رشد، وغيره من واسعي الاطلاع في الفلسفة وعلوم الأوائل، وعددهم غير قليل، فطلب من وزيره ابن عياش أن يكتب للأمصار، بالتخلص من كتب الفلسفة والتنجيم، إلاَّ ما يستفاد منه في معرفة القبلة، وأوقات الصلاة، والطلب، والحساب، والدين الإسلامي، واللغة العربية، وما لا يتعرض أو يتعارض مع العقيدة الإسلامية، كما أمر ابن رشد، بأن يعلن براءته من مبادئه الخارجة عن الدين، ثم أمر بنفيه، فكتب الوزير عبدالله بن عياش بتنفيذ ذلك.

هلل المناوئون، وكادوا أن يطيروا فرحاً بما يرونه إنجازاً للتخلص من ابن رشد ومن هو على شاكلته من العلماء، وهذا الشاعر الحسن بن جبر يقول:

الآن قد أيقنَ ابنُ رُشدِ

أنَّ تواليفَه تَوالف

يا ظالماً نفسَه تأمل

هل تجد اليوم من يوالف

وقال أيضاً:

لم تلتزم الرشد يا ابن رشد

لما علا في الزمان جدك

وكنت في الدين ذا رياء

ما هكذا كان فيه جدك

وقال أيضاً:

نفذ القضاء بأخذ كل مرتد

متقلب في دينه متزندق

بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقة

إن البلاء موكل بالمنطق

كان الغزالي عدواً لدوداً للفلسفة، ومؤسس دولة الموحدين أحد تلاميذه، وتوحدت على هذا الشعار، غير أن من تولى فيما بعد، ليسوا جميعاً يحملون هذا الفكر المعادي للفلسفة، لكن لا بد لهم من مجارات العامة الذين ترسخ لديهم هذا النهج، وأصبح أمراً لا يحيدون عنه.

لم يكن ابن رشد الوحيد الذي ابتلي في علمه فهذا استاذه ابن باجه، يدخل السجن بعد أن وجهت إليه تهمة الكفر، لكن ابن رشد تشفع له، عندما كان قاضياً، وأخرجه منه، وابن الطفيل أيضاً كان استاذاً لابن رشد، وموسى بن ميمون الأندلسي المنشأ يهودي الديانة، والعالم والطبيب المشهور، وكان رفيقاً خاصاً لابن رشد وأخذ منه الكثير من العلوم.

لقد عهد الخليفة المنصور لأبي بكر بن زهر الحفيد أن يتتبع كتب الفلاسفة، ويتخلص منها، فنفذ أمر الخليفة خوفاً منه، رغم أنه فيلسوف محب للفلسفة، ونقل لنا أحد المؤرخين قصة ظريفة حدثت لأبي بكر بن زهو، فعندما كان يدرس الطب قدم إليه تلميذان وترددا عليه، ثم لازماه، ثم أنهما أتياه يوماً وفي يد أحدهما كتاب صغير في المنطق، فتصفحه ثم رمى به، وأقبل عليهم ليضربهم، فهربوا فطاردهم، لمسافة طويلة ثم عاد، وبعد مدة توسلوا إليه وأرسلوا له معتذرين، ومعللين وجود الكتاب، بين أيديهم بأن أحد الشبان كان يحمله، فطلبوا أن يرونه، وعندما قرأوه رأوه من كتب المنطق، فأخذوه معهم إلى الدرس ليتخلصوا منه فيما بعد، فتخادع لهم، وسايرهم، وطلب منهم أن يقرأوا القرآن والحديث، وأعطاهم دروساً فيه، وبعد مدة من الدراسة، قال لهم «الآن صلحتم لأن تقرأوا هذا الكتاب، وأمثاله علي، واشتغلوا به، وتعجبوا من فعله»، وهذا يدل على أنه كان يرضي السلطان، ويجاري العامة، لكنه في حقيقة الأمر، فيلسوف محب للفلسفة، وهكذا أقرانه ومنهم ابن رشد، لكن ابن رشد زل زلة أوقعته في المحظور.

لم يدم سخط المنصور طويلاً على ابن رشد، فقد تراجع عن رأيه السابق، وأوقف التخلص من كتب الفلسفة، وعفا عن ابن رشد، وطلب منه القدوم إليه في مراكش، فأكرمه وجعله مستشاراً له، وطبيباً، وأخذ المنصور نفسه، ينظر في كتب الفلاسفة وقت فراغه، في خلوته، دون المجاهرة بذلك، والحقيقة أن هناك تناقضاً شديداً بين العامة والخاصة، فالعامة يمنعون الفلسفة منعاً شديداً، بينما علماء الفلسفة من الخاصة، يميلون إليها ميلاً عظيماً، ولهذا فكثيراً من كتبهم لم تشتهر إلاَ بعد وفاتهم، وترجمتها إلى اللغات الأخرى، ومن ثم البناء عليها لقيام الحضارة الأوروبية التي يعيش امتدادها حتى الآن، بعد أن بذر بذرتها الأولى، أولئك العلماء الأفذاذ.