أن تكتب رواية تاريخية، هذا يعني الاستعداد لرحلة هي عبارة عن تجربة محفوفة بخطرَين قاتلَين: خطر التاريخ في حد ذاته، بحيث يمكن أن يتحول النص إلى مادة ثقيلة، وخطر التخييل حيث ينسى الكاتب أنه أمام فعل إبداعي بالدرجة الأولى، حتى لو حضر التاريخ بقوة.

على النص الأدبي أن يظل وفياً لمؤشره الأجناسي: رواية.. عندما بدأت بكتابة رواية: كتاب الأمير، التي فازت بجائزة الشيخ زايد، رحمه الله، في دورتها الأولى، لم يكن الرهان مهماً، ولا تاريخياً كما قد يتبدّى.

ففي الرواية إيقاعات، وموسيقى، وألوان، تتجاوز فعل التاريخ بمعناه المباشر.. كانت الرغبة الكتابية هي تدمير اليقين، لأنه لا يقين في التاريخ أبداً، فكل شيء قابل للانقلابات.

ويكفي أن نرى اليوم في أمريكا وأوروبا تدمير تماثيل رواد العبودية، التي كانت تحتل منذ قرون الساحات العامة، ملامسة الأمير الإنسان الذي يشبهنا والقريب من توترات عصرنا هو انشغال الرواية، وليس أمير الكتب المدرسيّة التي اختزلته في بارودة وحصان، وألغت كلياً رجل حوار الأديان، حقوق الإنسان، التنور والتحديث، القارئ العظيم لابن خلدون في الحرب، وابن عربي في المنفى.

الأمير الصديق الذي يساعدنا في الإجابة عن بعض أسئلة العصر الصعبة: التطرف الديني، العولمة، صدام الحضارات.. أمير، كلما سمع كلاماً جميلاً اهتزَّ له، وكلما سمع مقطوعة موسيقية أحسَّ بعمقها الإنساني، وكلما سحبته من يده باتجاه أقرب متحف في المدينة ليرى صورته المخيّلة الوطنية، امتعض من المجسمات التي رسمته خارقاً بينما هو بسيط كما الماء، وكلما أدخلته إلى مدرسة، غضب ومزَّق الكتاب المدرسي الذي أفقده هشاشته وحوَّله إلى صنم.. نتيجة هذا المنظور نشأ بين يدي أمير آخر، فيه من روح الأمير، ولكن فيه أيضاً من هواجسنا المشتركة معه، محصلة هذه الخيارات كانت أكثر من مذهلة. اكتسب الأمير الآلاف من أصدقاء هذا العصر، الذين أحبوا الأمير لأنه يشبههم جميعاً، في ترددهم، وفي شجاعتهم أيضاً، لكني كسبت عداوة كثيرين في المؤسسة الرسمية، لأني سرقت منهم الأمير الذي حنَّطوه حتى قتلوه، والأعداء السُلاليين، ومنهم حفيدة الأمير، الأميرة بديعة التي لم تفهم أن الأمير ملكيَّة شعبيَّة وليس فقط ميراثاً سُلاَليّاً، الأمير الحقيقي الذي ظلت تنادي به لا يوجد إلا في مخيلتها، فقد رفضت خياراته الصوفية، وحوَّلته إلى رجل متزمت دينياً، والتقت في النهاية مع بعض التيارات الاستعمارية التي كانت تقول إنها حاربت الأمير لتزمّته الديني، مع أن الرجل كان مسلماً ورعاً، متفتحاً على الإنسانية وعلى كل مكاسب التحديث، كان من الصعب إقناع الأميرة بديعة بأن أميري وأميرها لا يتشابهان.

أميري عندما انهزم اعترف بأخطائه، وقال صراحة ما لم يقله المؤرخون، وقبل أن يختبر هشاشته أمام قسوة زمن لم يكن في النهاية في صالحه، وأميرها كان بطلاً يقينيّاً، صنماً لا يتحول في الزمن والمكان، وانتهينا إلى فكرة بسيطة لكنها حقيقية: لك أميرك يا سيدتي، ولي أميري.