لم تستطع فلسفات الإعلام العربي التقليدية والحديثة البقاء طويلاً في مواجهة الحقائق الراسخة حول الشعوب، ولذلك فإن وقفة جديدة أمام خارطة العالم العربي وما حدث خلال عشر سنوات مضت تنبئك عن الواقع، والحقيقة التي اكتسبها العالم العربي..

لنبدأ بسؤال مهم حول تاريخ الإعلام السياسي العربي ومراحله الطويلة، وتحديداً فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف تشكل ذلك الإعلام في المخيلة الشعبية العربية، وما أثره على الصورة النهائية للسياسة العربية وإعلامها..؟ ليس الحديث هنا عن السياسة، ولكنه حديث عن الإعلام السياسي العربي من خلال تاريخ طويل من المفاهيم التي ترسخت في العمق الشعبي العربي، وامتدت بطول العالم العربي وعرضه، بإلاضافة إلى كم هائل من الأدوات الإعلامية، التي لعبت دوراً في تسيير الاتجاهات الشعبية، ليبقى السؤال الأكثر قسوة حول المصابين من ذلك الإعلام والمفقودين من ذلك الإعلام السياسي..؟

خلال ما يزيد على سبعة عقود مضت أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وانطلاقة الدول العربية في سباقات الاستقلال والتحرر والثورات والتطور بدأت تتشكل فلسفة الإعلام السياسي العربي وفق مفاهيم مختلفة تحكمت بها حينها الاتجاهات السياسية القائمة في كل دولة عربية، وقد تفاوتت الدول العربية في طرح فلسفاتها السياسية إعلامياً، ففي بعض الدول أفرز الإعلام السياسي عدداً من الإشكاليات التي انعكست على البنى الثقافية والاجتماعية لتلك الشعوب، وقد اتجهت الكثير من الدول العربية نحو مفاهيم تعبوية هدفها خدمة الرأس السياسي في تلك الدول، حيث حقنت الشعوب بمواد إعلامية سياسية لم تقدم خدمات شعبية بقدر ما قدمت مبالغات سياسية ساهمت في خلق مصابين ومفقودين ومتعافين من جراء ذلك الإعلام.

ولكي تكون الصورة أكثر وضوحاً من حيث الهدف من هذا المقال، فإنه لابد من الإشارة إلى أن ما حدث خلال ما يزيد على سبعة عقود مضت في مسار الإعلام السياسي العربي أوجد دولاً وشعوباً وقيادات تعرضت للكثير من الأزمات، وعندما نستعرض الدول العربية البالغة اثنتين وعشرين دولة فسوف نستطيع أن نحدد وبوضوح على الخارطة ما الدول التي أصابها فيروس الإعلام السياسي، وما الدول التي فقدت وانتهت كنتيجة حتمية لفلسفاتها الإعلامية، وما الدول التي تعافت، وما الدول المؤهلة حالياً للإصابة بذلك الفيروس، وما الدول الناجية منذ البداية؟

وقبل أن أدخل في التفاصيل فلابد من إثبات حقيقة تاريخية ثابتة بالدليل أن هناك دولاً محددة في الخليج العربي استطاعت أن تقاوم تلك التوجهات الحادة التي كانت تستهدفها من خلال فلسفات إعلام سياسي انطلق منذ البداية مع إذاعات وقنوات متفرقة في عالمنا العربي، ساهمت بشكل دقيق في تشويش الوعي في المنطقة العربية بأكملها، لقد شهد العالم العربي في تلك المراحل توظيفاً سلبياً للعناصر الإعلامية، حيث ساهمت فلسفات الإعلام العربي في تسييس المشروعات التنموية عبر تكتيكات إعلامية لم يكن هدفها سوى خدمة اتجاهات فشلت حتى في البقاء على قيد الحياة.

ولكي تكون الصورة واضحة ودقيقة حول تلك الفلسفات ونتائجها فإنه باستعراض العالم العربي فقط فيما بعد العام 2010م فسوف نجد كيف فقدت الكثير من الدول العربية رموزها السياسية واستقرارها، والتي كانت تتحكم بتلك الفلسفات الإعلامية بوسائل سلبية، ولعل القذافي وليبيا خير مثال على تلك الرموز والدول التي عملت على توظيف سلبي للإعلام، لقد أصيب الكثير من الإعلام في دولنا العربية، ما أدى إلى فقدان الكثير منه بسبب فلسفات إعلامية قامت على استدراج الشعوب واستثارة مشاعرهم عبر إغرائهم بطموحات غير قابلة للتطبيق، حيث انتهت تلك الدول بفلسفاتها الإعلامية إلى مشروعات وهمية.

لم تستطع فلسفات الإعلام العربي التقليدية والحديثة البقاء طويلاً في مواجهة الحقائق الراسخة حول الشعوب، ولذلك فإن وقفة جديدة أمام خارطة العالم العربي وما حدث خلال عشر سنوات مضت تنبئك عن الواقع، والحقيقة التي اكتسبها العالم العربي، فكم من الدول والقيادات السياسية التي وظفت الفلسفات الإعلامية بطرق خاطئة، ما جعلها مصابة بفيروس إعلامها السياسي، ومن ثم فقدت هي وقياداتها، بل إن الكثير منها لم يعد قادراً حتى على التعافي، فهي تعيش اليوم في حالة شتات وعدم استقرار للشعوب والمقدرات.

اليوم هناك دولة خليجية ذات إطار جغرافي محدود، بقيت تعيد ذات الكرة عبر فضائيتها، ولا تتعلم من دروس التاريخ، فهي تمارس الأسلوب ذاته الذي كانت تمارسه فلسفات إعلام تقليدي عربي أصبحت الآن في عداد المفقودين، ومن يؤمن بالتاريخ يدرك أن نهاية تلك المسارات والفلسفات الإعلامية لن تتغير بتغير الأزمان، وسوف تحصل هذه الدولة الخليجية على النتيجة ذاتها التي حصل عليها غيرها، ومن الواضح أن الوعي الإعلامي بين الشعوب العربية يتصاعد بشكل إيجابي تجاه مثل تلك الفلسفات الإعلامية التي ثبت عدم فاعليتها في مقاومة التاريخ.