في عام 2014 كتب الزميل جاسر الجاسر في صحيفة الحياة عمودًا يدعو فيه إلى حظر سفر مواطنيه السعوديين إلى تركيا، وكتبنا في الوقت نفسه مقالاً نطالب كل دول مجلس التعاون الخليجي إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة طالما أن تركيا صارت معبرًا لأبناء السعودية وبقية الأقطار العربية والخليجية وأيضا الأوروبية ممن يريدون عبور الحدود التركية السورية إلى داخل سوريا للالتحاق بوحوش القرن الحادي والعشرين من تنظيمي داعش والنصرة، خصوصًا وأن تلك الحدود ليست حصينة ويمكن اجتيازها بسهولة عبر دفع بعض الاتاوات والرشاوى بالدولار الامريكي الأخضر.

غير أنه مذاك وإلى اليوم جرت مياه كثيرة تستدعي وقفة حازمة وحاسمة من جانب دول الخليج تجاه سياسات النظام القائم في أنقرة بقيادة حزب العدالة والتنمية ذي التوجهات الإخوانية الفاقعة، وزعيمه الطامح لقيادة العالم الإسلامي وإعادة الخلافة العثمانية المنقرضة.

فتركيا أردوغان لم تعد دولة صديقة ذات نوايا طيبة تجاهنا وتجاه بقية العرب. بل العكس هو الصحيح فنواياها الخبيثة ماثلة في تدخلاتها في الشأنين العراقي والسوري، وفي إرسال المرتزقة والأسلحة إلى ليبيا لزعزعة أمنها واستقرارها وسيادتها والاستيلاء على ثرواتها النفطية، وفي احتضانها للعناصر الهاربة من جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وفي خطابها التحريضي ضد كبرى الأقطار العربية وأكثرها ارتباطا بدول الخليج العربية (مصر) والذي بلغ مبلغًا هستيريا تمثل في وصف أردوغان للمشير عبدالفتاح السيسي بـ «الطاغية» من فوق منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، ناهيك عن تحدي أنقرة لشرعية النظام المصري باحتضانها لاجتماع عقد في اسطنبول قبل سنوات وانبثق عنه ما يسمى بـ «المجلس الثوري المصري». وقبل كل هذا دعم ومساندة نظام أنقرة الصريح لنظام الحمدين في الدوحة المتآمر على دول المقاطعة الأربع (المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وجمهورية مصر العربية)، عبر حمايته بقوات تركية تعيث فساد في قطر وتنتهك حرمات أهلنا وأشقائنا القطريين.

ولا ننسى في السياق نفسه الإشارة إلى حجم التعاون والتنسيق والتشاور المستمر والمضطرد بين النظام الأردوغاني الإخواني والنظام الفقهي الإيراني المعروف باستهدافه لأمن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي وذلك بهدف استغلال ما تمر به المنطقة العربية من ضعف واختلال وفوضى في فرض هيمنة تركية /‏ فارسية عليها على المدى البعيد. ولا حاجة لنا هنا أن نعيد تكرار ما سبق أن قلناه مرارًا وتكرارًا لجهة خطأ الاعتقاد بأن التناقضات المذهبية بين الطرفين، أو تباين سياساتهما حيال الغرب واسرائيل، أو تنافسهما على منطقة القوقاز وآسيا الوسطى يحول دون تحالفهما. ودليلنا هو الزيارات المتبادلة على أعلى المستويات بين القادة الاتراك والفرس وإبرام الجانبين اتفاقيات أمنية لمطاردة المعارضين لهما في أراضي البلدين، وصفقات اقتصادية وتجارية وصناعية ونفطية الغرض منها تسهيل هروب إيران من الحصار الدولي الخانق المفروض عليها من المجتمع الدولي.

يقول المثل العربي «من أمن العقوبة أساء الأدب»، وهذا ينطبق شديد الانطباق على تركيا. فلأن دول الخليج العربية صمتت طويلاً على الإساءات التركية الرسمية بحقها، ومنها تطاول أردوغان ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو على موقع المملكة العربية السعودية كحامية لأقدس مقدسات المسلمين ومطالبتهما بتدويل الحرمين الشريفين، ناهيك عن تحمسهما لفكرة القيادة الإسلامية البديلة والتي تجسدت في «قمة الضرر» الفاشلة بالعاصمة الماليزية، ولأن دول الخليج دول مسالمة تحترم نفسها وتلتزم بالأصول والأعراف الدبلوماسية ولا تدير سياساتها بطريقة انفعالية فإن تركيا الأردوغانية تمادت وطغت في مواقفها المسيئة إلى الحد الذي دفع وزير دفاعها خلوصي آكار مؤخرًا إلى مهاجمة مملكة البحرين والتدخل في مواقفها السيادية تجاه شقيقتها دولة الإمارات العربية المتحدة.

لم تدس البحرين على طرف الأتراك أو تسيء إليهم. هي فقط قامت بما تمليه عليها علاقات الدم والجوار والشراكة الخليجية في إطار مجلس التعاون الخليجي، فأصدرت وزارة خارجيتها بيان تضامن مع الإمارات أكدت فيه «وقوف مملكة البحرين صفًا واحدًا مع دولة الإمارات في موقفها الثابت بشأن التدخلات التركية في الشؤون الداخلية للدول العربية والتي تتعارض مع مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وميثاق منظمة التعاون الإسلامي، وتمثل تهديدًا للأمن القومي العربي والأمن والسلم الإقليمي».

غير أن هذا البيان الدبلوماسي الهادئ الذي يمليه الواجب، لم يعجب، بطبيعة الحال، نظام أنقرة المتغطرس الذي اعتاد في بياناته استخدام عبارات فيه من الإساءة وقلة الأدب ما لم يسبق استخدامه في مخاطبات الدول لبعضها البعض، بدليل ما قاله آكار من أن الإمارات «دولة وظيفية تخدم غيرها سياسيًا أو عسكريًا ويتم استخدامها عن بعد» قبل أن يتهما بـ«التسبب في الفوضى في منطقة الشرق الأوسط بتدخلها في اليمن وليبيا» ويتوعدها بحساب عسير، شلّ لسانه. وكان وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية د. أنور قرقاش، قد رد على التصريح الاستفزازي التركي بالقول إنه سقوط جديد للدبلوماسية التركية، وإن «منطق الباب العالي والدولة العلية وفرماناتها مكانه الأرشيف التاريخي»، مشددًا على أن «العلاقات لا تدار بالتهديد والوعيد، ولا مكان للأوهام الاستعمارية في هذا الزمن»، ومؤكدًا أن «الأنسب أن تتوقف تركيا عن تدخلها في الشأن العربي».

المثير أن وزارة الدفاع التركية وهي تندد بمواقف البحرين راحت تؤكد على «الأخوة والصداقة القائمة بين الشعوب العربية وتركيا». والسؤال الذي يجب التصريح به هو هل أبقت تركيا على صداقة مع العرب بعد هذه الألفاظ البذيئة وتلك المواقف العدائية وذلك الجنوح نحو الاعتداء على سيادة سوريا والعراق وليبيا وقطر كي نصمت؟