القصيبي حاضرًا

«لقد كان شعرنا العربي التقليدي في الغالب الأعم من الحالات، شعر أبيات لا شعر قصائد. ومن هنا جاءت التعبيرات العديدة التي تتحدث عن الشوارد - بيت القصيد - عيون الشعراء».

(غ- القصيبي)


شاعرنا الذي لا يختلف عليه اثنان في تجسيده للشاعر في صورته الدالة على إثبات أنه متمكن من فنه صدقاً وأسلوباً يوصّل ما يبوح به من مشاعره إلى المتلقي دون عناء أو تأويل، هو الشاعر الراحل غازي عبد الرحمن القصيبي، الذي يعتبر الشعر إحدى ركائز مواهبه وقدراته التي شملت العديد من الشؤون الحياتية والفكرية التي مارسها وحقق فيها نجاحات أبهرت الكثيرين، ومازالت محل دراسات ومحاولات للدخول في تحليلاتها وتفسير لتلك الإمكانات التي اجتمعت في شخصه - هذه لها من هو مهتم بها - وأنا هنا سيكون المستطيل الذي سأحتله بالكلمات، هو بعض مما تميز به في الأدب وخصوصاً في الشعر الذي لفت نظري إليه في بواكير اهتمامي بالقراءة في الشعر العربي من كتب التراث والدواوين الحديثة، وما ينشر في المجلات المتخصصة وغير المتخصصة في الأدب، التي تفسح في بعض صفحاتها المجال لنشر بعض القصائد للشعراء المتمكنين، وتتيح جانباً للمحاولات التي تنبئ مُسْتَشَفَّةً من قبل المشرف عليها عن إلماعات لموهبة في الطريق، وفي قراءتي إحدى هذه الصفحات وأنا أتصفح مجلة المصور المصرية توقفت عند أبيات قليلة مذيلة باسم (غازي القصيبي) أعجبت بأسلوبها السهل السلس، ونسختها من الصفحة، وضممتها إلى صفحات أخر كنت قد نزعتها أو نسختها من مجلات أخرى تحتوي على قصائد لشعراء وشاعرات من العالم العربي، كانت تلقى القبول لدي حسب فهمي في تلك الفترة التكوينية في بداية الستينات من القرن الماضي - مازلت أحتفظ بالملف لسبب سأتحدث عن محتوياته في وقت مناسب - كان نص شعر غازي المنشور بعنوان «بوح»:

«يعرف الصبح أنني.. بك أصبحت مغرما

يشهد الفجر والدجى.. تشهد الأرض والسما

فلماذا أميرة القلب.. تهوى التلثما

ترمق العين أختها وينادي فم فما

وأحس الحنين في الدم يسري جهنما

وإذا كدت أن أقول توقفت مرغما

وإذا رام ثغرك الحلو يوما تلعثما

لو تبوحين مرة.. يصبح الكون أنعما

يخطر العطر في الدنى.. يمطر الليل أنجما»

هذه الأبيات كان سبب نسخها من مجلة المصور في بداية الستينات من القرن الماضي هو الإعجاب بها نظراً لسهولتها وملامستها لأخيلة شاب أحب واستهواه الشعر المحلق في سماوات الرومانسية التي كانت تلقي بظلالها وترفرف بجناحيها على الكثيرين من الشعراء، سواء قراءة أو سماعاً في الأغاني العربية التي تتكئ على أشعار الغرام والهيام ووصف الطبيعة، ثم لكونها لشاعر شاب كان يدرس في إحدى الجامعات في مصر، وبعد سنة أو سنتين تعمق هذا الشعور بقراءة قصائد أخرى للشاعر نُشرت بشكل جميل في مجلة (قافلة الزيت) الصادرة عن شركة أرامكو التي أحصل عليها من بعض الزملاء، ومن ثم استطعت أن أتحصل على اشتراك فيها كهدية شهرية، وكم كانت سعادتي الموشاة بالزهو والتفاخر بها، وبضم ما يلفت نظري من قصائد إلى ملفي الغالي، وعرفت من خلال قراءاتي أن للشاعر بعد فترة ديوانين قد صدرا له (قصائد من جزائر اللؤلؤ) و(قطرات من ظمأ) ثم كان وجوده في كلية التجارة بجامعة الملك سعود وصدور ديوانه «معركة بلا راية» وقراءاته الشعرية في معهد الإدارة لمختارات من هذا الديوان وما كان لقصيدة (سوف أصطاد لك الميراج يا ليلى بخنجر) وتوالت نتاجاته شعراً ونثراً في دواوين وكتب عديدة تتوالى طبعتها إلى الآن مجدداً بين وقت وآخر بسبب الإقبال عليها.

(أبيات القصيد) كتاب صدرت الطبعة الثانية منه قبل مدة وجيزة من هذا العام 2020 وهو كما يصفه الشاعر الراحل «باختصار شديد أقول: إن هذه المجموعة الصغيرة موجهة إلى القراء/ القارئات الذين يريدون الوصول إلى أبيات القصيد في شعري دون المرور بالدواوين كلها أو بالقصائد كاملة»، وهو هنا يختلف عن أقرب اثنين اهتما حديثاً بأبيات القصيد بما سمياه الومضة أو المضمون المراد توصيله من خلال القصيدة، فالأديب خليفة التليسي أصدر كتاب «قصيدة البيت الواحد» 1991، وأدونيس أصدر «ديوان البيت الواحد في الشعر العربي» 2010 وهو كما وُصف من بعض الناقدين استنساخ لكتاب التلّيسي بشكل ذكي في تقديم وتأخير ورتوش، حتى في التقديم الذي أغرق فيه خليفة وفسر وذهب إلى أكثر من مصدر ومرجع لم يسلم من الاستنساخ الأدونيسي. وهذا ليس شأني فهناك من لهم وجهات نظر عديدة وهكذا الأعمال المتشابهة يكون لها كذلك.

القصيبي يختلف لكونه ركز على قصائده وشعره فقط، وذهب وقوّس أبياتاً من قصائده رأى أو كان يعني من كتابة القصيدة ما تحتويه هذه الأبيات، وسأدرج بعضاً منها كأمثلة تدل على ما ذهب إليه، وأشير إلى أنه كالعادة كان السَّباق والمتفرد الذي يفتح بإبداعه أبواباً لم تفتح قبلاً، وهذه سمة المبدع الحق، وقد عنون كل بيت أو بيتين بعنوان يؤطر المعنى ويجسده بغية تقريبه للمتلقي، وقد أهدى الكتاب «إلى علي بن طلال الجهني عسى أن يحفظ بيتاً أو بيتين»

عطاء

إذا أعطاك غيري عقد ماس

منحتك من عيون الشعر درة

فوق الطاقة

يالعينيك ! في مفاتن عينيك

تعاني الأهواءُ.. ما لا تطيق

الفرص

فرصٌ إذا ولت فلا أملٌ

في أن تعود.. ولا صدى أمل

عن الشعراء

ونحن الذين صنعنا الغرام

وصغناه ملحمة للسنين

جنون مضاعف

اللقاء الخجول كان جنونا

والوداع العنيف هذا جنون

سؤال وأمنية

ما الذي قلت له حين دنا

منك؟ هل غنيته لحنا شرودا؟

آه لو غنيت في سمعي أنا

لجعلتُ الليل مزمارا وعودا

قاطبة !

أشكو إليك حسان الأرض قاطبة

عشقتهن فكان العشق ما قتلا

بساط الريح

يا بساط الريح جئناك فَطِرْ

قبل أن يدركنا ليلُ البعاد

ألقانا في نجمة مسحورة

ألقنا بين أساطير الرقاد

لتحدي

أيُّهمْ يقدر أن يجمع في

بيت شِعرٍ.. كلَّ أسرار جمالك؟

ويكون ختام المختارات من (بيت القصيد) عن زهرة الشرق لبنان الذي يُرجى له أن يلتئم شمله، وتعود إليه الدعة والسكون:

بيروت

وأين ما كان يا بيروت إذ رقصت

لي الليالي وطارت بي الأعاجيبُ؟

وأين شعْرٌ جميلٌ لست أذكره

على الصنوبر والتفاح مكتوب؟

الرحلة الكتابية مع عَلَمٍ فكري مبدع مثل غازي القصيبي لا تنتهي فهو يسير بك في درب طويل يمتد ويطول مع محاولة للحاق بنتاج متعدد في تنوعه، في سهولة ممتنعة على مماهاته؛ لكونه لوناً خاصاً من نوع خاص، الخاص الذي يأبى التقليد، فأصالته تَصُدُ بإعجاز وتَمْنَعُ التزييف مهما استعملت واستخدمت معها من حيل؛ لأنها تَعْلَم أنها ستواجه استحالة المستحيل!.