للتو عدتُ من "نخلة جميرا"، سلكت الطريق نحو المقهى، بعد أن أوصلت "كلارا" إلى منزلها، تلك الفاتنة بنشاطها وضحكتها المجلجة!

كانت القادمة من البرازيل على موعد مع دانة، هي الأخرى تعشق المرح، جلستا سوية في الدار، تناولتا مزيجاً من الأطعمة المتنوعة: السوشي الياباني، والبيتزا الإيطالية، والسلطة المنزلية، وكثيرٌ من العلكة.

الغمازاتُ تتناثر بينهما، كنجوم تزين جيد غزالة حسناء.

تكاد تلمس الفرح، تشعره يقذف بك في داخله، ويستل من روحك الأوجاع خلسة وبهدوء، ويزيحها جانباً.

دانة القادمة من مزيج بين شاطئين: خليج العرب، والأطلسي، القطيف، وأكادير؛ السعودية والمغرب، وبينهما مزيج آخر: عربٌ وأمازيغ: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ".

هي أيضاً ثمرة حبٌ بين أبوين، لم تُعِقهُما المذاهب وتعقيداتها، عن أن يكونا سوية تحت سقف واحد. تجاوزا معنى التسنن والتشيع، ورمِقا قول الحق تعالى "رحمة للعالمين"، وقديماً شهِدَ المتصوفة أنه "من كانت له قدمٌ في العشقِ راسخةٌ، فقد تجاوزَ الكفرَ والإسلامَ معاً". ألم ينشد إبن عربي "أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني".

تلك المحبة والرحمة التي سرقها، بل اغتالها الكثيرون في زماننا هذا، باسم السياسة، والدين، والعادات والتقاليد؛ وغيرها من الأعذار الكاذبة، والمقولات المتخففة من الصدق، والمحملة بكثير من النفاق.

قبلها بأيام، وتحديداً مساء السبت، وبعد أن تناولت وجبة غذائها على جناح الريح، ضربت دانة برجلها نحو منزل "أونا"، هنالك الحسناء الأوربية، بوسنية الأصل، التي بسبب الحرب في بلدها، هاجر أهلها إلى صربيا، إثر النزاع والاقتتال العرقي بين المسيحيين والمسلمين، وجرائم الإبادة التي حصلت، وأورثت الكثير من القبور التي تتفطر حولها الأرواح كمداً!

كانت أونا فرحة، هي وأختها الكبرى "دورا" بالزائرة الشقية.

ضحك، رقص، لعب، حلويات تزيد الأسنان ثقوباً، لكنها تملئ المكان نشاطاً وضجيجا.

أثناء خروجها من المدرسة، وفي الفناء الخلفي، تجتمع "الشلة": دانة، معها "كيرا" القادمة من الهند، والجميل "أماري" الإكوادوري الأب والإنجليزي الأم، مع "أوزان" الذي تجد عليه ملامح الإنجليزي الذي سيكون له شأنٌ يوما ما؛ ينضم إليهم أحياناً بعض الرفاق الذين لا يتوقفون عن الجري تباعاً، يراودهم حلمهم في كل ساعة، فيقبضون عليه، ولا يتخلون عنه.

ذلك نزرٌ من يوميات ابنتي دانة، التي ستكمل بعد بضعة أشهر عامها السادس. يوم ولادتها، أذكر جاءتني تهنئة غالية على قلبي من شخصية رفيعة، قال "أسميتها دانة على إسم دبي، دانة الدنيا".

كان بصرها الأول في أكادير، هنالك قرب "الحي المحمدي"، في كنف جدها السي محمد، وجدتها للا فاطمة. أقام الأهل "العقيقة" احتفالاً بالحفيدة الأولى: أطباق "الطاجين باللحم والبرقوق"، و"الرفيسة بالدجاج البلدي"، والحلويات المغربية التقليدية، فيما النساء عصراً رحن يتمايلن على إيقاع أغاني "الشيخات"، قبل أن تنصت الأرواح للذكر الحكيم وترانيم الصوفية في مجلس الرجال ليلاً، لتدار أقداح "الأتاي"، ويتحلق المحتفلون حول مائدة من بهجة غامرة.

بعد المغرب، أتت الصغيرة إلى السعودية لتبدأ قصة حب جديدة مع "ماما خاتون"، التي دائماً ما تطلب منها أن تعد لها "كيكة العقيلي"، ذلك النوع الأثير من الكيك المحلي الشهي، المحمل بالذكريات والحنان.

دبي كانت ملعب دانة ومسرح خبراتها المبكرة، وهي خبرات ثرية جداً لأي طفل يعيش في هذه الإماراة، لما تمنحه لها من فرص في التعرف على ثقافات كثيرة وعديدة، يندر أن تراها في مدن أخرى، خلا بعض العواصم الكبرى والمدن العالمية، التي تعد على أصابع اليدين ربما!

لا أريد أن أكون متطرفاً في محبتي للمدينة التي أرخي لها رأسي، وأسند روحي على كتفها، إنما واحدة من الأسباب الرئيسة التي تجعلني أتشبث بفستانها، هو هذا المزيج الكبير من الأعراق والأجناس الذي يعيش وسطه الأطفال منذ نعومة جدائلهم. رغم أنها تجربة ليست باليسيرة، إلا أنها تصقل شخصية الأطفال وتمنحهم القوة.

عندما كانت ابنتي دانة في الروضة، في مرحلتها الأولى، كان في الفصل حوالي 20 طالبة وطالباً، ينتمون لنحو 12 جنسية.

منذ الصغر، يتعلم الأطفال أن لا فرق بين دين وآخر، أو بين جنسية وأخرى، أو لون أو عرق أو مذهب أو لغة أو لهجة.. هم من بواكير أعمارهم يعيشون سوية بسحناتهم المختلفة وألسنتهم المتنوعة، ويجمعهم شيء واحد: براءة الطفولة والنقاء الجميل.

ذلك ما يمكن الأجيال في المستقبل من تجاوز ويلات حروب الحاضر وخطاباته العنصرية ودعاوى الكراهية. لأن التنشئة المبكرة على التعايش والتعاون والصداقات الحميمة، ستجعلهم عندما يكبرون متشبعين بقيمٍ وممارسات وخبرات لم تتح لأغلبنا عندما كنا في أعمارهم.

هي ذي قوة المجتمعات التي تفسح المجال أمام التعدد؛ تعززه، لا تخشاه، تدفع نحو تجاور الثقافات وتحاورها وتآزرها في تحقيق العيش المشترك وبناء دولة حديثة، تحترم حقوق الإنسان، وتمنح الحق للجميع في ممارسة عباداتهم وثقافاتهم، فيما حرية الفرد هي الأساس في كل ذلك، ومفتاح تنميته ورفاهه وسلامته.

دبي ليست مجرد أبنية، كما يحلو للبعض أن يهجوها غيرةً أو جهلاً أو كراهية. هي هذه النظام المتقن، والحيوات اليومية، والقصص التي تنسج على أرض الواقع. هي السماوات المفتوحة أمام كل هذه الضحكات لتعانق قلب الله، دون أن تصيبها سهام المتربصين بـ"الظبي عند النبع". هي التدريب الدائم على العيش معاً، وصناعة المستقبل معاً، وأن نتقنن الدرس: قوتنا في تنوعنا، والموات يحلُ عنما يلغي أحدنا الآخر.