من هو العربي؟ سؤال قد يبدو للوهلة الأولى أنه بديهي، لا يحتاج إلى فذلكة فكرية، أو محاجّة سفسطائية لا طائل من ورائها، ولكنه في الحقيقة وجودي مُلحّ يفرض نفسه، وبخاصة هذه الأيام، حيث تعود معضلة الهوية أو سؤال الهوية إلى واجهة السجال من جديد.

لقد استمر سؤال الهوية يفرض نفسه على الساحة العربية والإسلامية منذ اللحظة التي اكتشفت فيها منطقة الشرق العربي عزلتها الطويلة عن العالم، أو لنقل كشف له عن هذه العزلة، من خلال "لحظة الصدمة" الحضارية حين غزا نابليون بونابرت (1769-1821) مصر والشام في 1798، كما يتفق معظم المؤرخين، فكشفت السوأة الحضارية لهذه المنطقة، فأخذ أهلها يخصفون عليها من ورق شجرة الوجود الحضاري أسئلة لا تزال مطروحة حتى اليوم، من نحن؟ أعرب أم مسلمون أم كلاهما؟ وكيف تقدموا وتخلفنا؟ وكيف الخروج من هذا المأزق؟ بالرجوع إلى نهج "السلف الصالح"؟ أم بالقطيعة الكاملة أو الجزئية مع ذلك النهج؟ وغير ذلك من أسئلة لا تخرج في مضمونها عن هذا الإطار.

وزادت مثل هذه الأسئلة حدَّةً، خصوصاً سؤال الهوية في العهد الأخير من الهيمنة العثمانية، وأصبحت مجالاً للسجال العام، إلى ما بعد هزيمة هذه الدولة في الحرب العالمية الأولى، ومن ثم سقوطها وانتهاء "الخلافة" رسمياً في 1923، وهي التي كانت ساقطة قبل ذلك بكثير.

سؤال الهوية لا يطل برأسه ولا يطرح نفسه عادة إلا في المجتمعات المتأزمة، بمعنى أنه مؤشر قوي على تأزم المجتمع أو الثقافة أو كليهما معاً، إذ إن هناك عُروة وثقى تربط بين الثقافة والمجتمع، لذلك لا تجد مثل هذا السؤال مطروحاً في المجتمعات التي لا تُعاني أزمة هوية؛ إذ إن هويتها في النهاية هي ممارسة عملية معنوية أو تلقائية طبيعية، واجتماعياً لا تثير أي تساؤل كأي فعل تلقائي آخر، كأن تأكل أو تشرب أو تعمل، لذلك لا تجد البريطاني مثلاً يتساءل من هو البريطاني، أو الأميركي حول من هو الأميركي، إذ إن المسألة محسومة هنا، سواء بالنسبة للفرد أو المجتمع، فهناك انسجام كامل بين الهوية والجنسية بهذه الأقطار في وحدة كاملة اسمها "المواطنة".

مثل هذا الانفصام بين الهوية والجنسية في الحالة العربية، أدى إلى ظهور أصوات قومية، وبخاصة في منطقة الهلال الخصيب "العراق والشام" تنادي بالأمة العربية الواحدة، حتى امتدت تلك الأصوات إلى عرب المشرق العربي، وضرورة أن تتوحد هذه الأمة في كيان سياسي واحد على غرار الأمم الأخرى، وبخاصة الأمة الإيطالية بقيادة جوزيبي مازيني (1805-1872)، والأمة الألمانية بقيادة أوتو فون بسمارك (1816-1898)، ومحمد عزة دروزة (1887-1984)، ومن ضمن نتائج هذا الأثر ضرورة وجود "زعيم" كاريزمي قادر على تحويل الحلم القومي العربي إلى واقع وجودي، وكان القائد بسمارك البروسي المولد، الألماني الوفاة، هو النموذج الملهم هنا.

بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) استقلت معظم الأقطار العربية من وادي النيل إلى الهلال الخصيب والمغرب العربي الكبير، بدأ الفكر القومي العربي الذي كان وجدانياً في مستهل القرن العشرين يتجسد سياسياً على شكل تنظيمات وحركات وأحزاب، وحتى دول قطرية عربية، بعد سلسلة الانقلابات العسكرية المتوالية التي بدورها سيَّست مفهوم العروبة، مستغلة بذلك الجيشين القومي العاطفي والتلقائي لدى جماهير العرب آنذاك، ونشوة ما بعد الاستعمار، فحاولت تحديد معنى "العروبة"، ووضع إجابة محددة عمَّن هو العربي، من خلال وضع أطر أيديولوجية، ببنود معينة من خلالها يتحدد من هو العربي، ومن لا تتحقق فيه هذه البنود والشروط فهو خارج عن دائرة العروبة وإن كان عربياً وفق الفهم العام.

كمثال على ذلك، أذكر أن محمد حسنين هيكل كان يستعرض في إحدى كتاباته العديدة مصير الصراع أو حتى الصدام بين القوميتين العربية والفارسية في منطقة الخليج العربي، وموقع الخليج والجزيرة العربية في هذه الصراع ومآلاته على العرب، وكأن عرب الجزيرة والخليج لا ينتمون إلى أمة العرب المفترضة، وأقول "المفترضة" لأن هؤلاء "العرب" الذين هم في أصل العرب تاريخياً، لا تنطبق عليهم بنود وشروط العروبة المؤدلجة، فهم في النهاية محل تنافس بين مطرقة القومية العربية، وسندان القومية الفارسية ليس إلا.

وكما ذكرنا في مقال سابق هنا، فإن القومية العربية أفكاراً وممارسةً، قد بدأت رحلة الانهيار الفعلي في أعقاب هزيمة الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967، وانتصرت بذلك الدولة الوطنية "القُطرية"، وبذلك حلت مسألة الهوية جزئياً، وليس كلياً، حلت جزئياً من حيث تماهي الهوية مع الجنسية إلى حد كبير، فأصبح المصري مصرياً، والسعودي سعودياً، والسوري سورياً، وهكذا دون مواربة، ودون أن يشعر المواطن في الدولة الوطنية بحرج أو قلق أو تناقض من هويته الوطنية، وتلك الهوية الأكبر والأشمل، سواء أكانت مرجعيتها قومية عربية أو دينية إسلامية.

فطوال تاريخ المنطقة العربية الحديث، كان التنافس على أشُدّه بين التيارات القومية والإسلاموية على وجدان الشعوب، ومن ثم احتكار مرجعية الهوية الواحدة الجامعة، مع نفي وإقصاء أي مصدر أو مرجعية لهويات أخرى أدنى درجة من ذلك، ومن ضمنها الهوية الوطنية، فما بالك بما هو أدنى من هويات فرعية، وهو ما تجده جلياً في الحالة اللبنانية مثلاً، وبخاصة قبيل إنشاء لبنان الكبير عام 1920، حيث كان هناك صراع مُستعر بين مرجعيات الهوية، من قومية عربية شاملة، وقومية سورية، وطائفية اختلط فيها الدين بالعشائرية، وبين ذلك كله كانت الهوية اللبنانية الجديدة أشبه بالكرة التي يتقاذفها هذا وذاك.

كان الكل يريد أن يصبغها بألوانه، ويضبطها بقوانينه. الحالة اللبنانية مثال صارخ على صراع الهويات ومرجعيتها، وإلا فإن الوضع ذاته يتكرر هنا وهناك في هذا القُطر أو ذاك، ولكن بدرجة أقل، وذلك بحسب ظروف ذلك القُطر.

قلنا إنه بترسُّخ الدولة الوطنية في أعقاب انحسار القومية العربية كقوة سياسية ذات ثقل على الساحة المشرقية العربية، فإن سؤال الهوية وازدواجيته قد حل بشكل جزئي وليس كلياً؛ إذ دخل الإسلام السياسي (الإسلاموية) طارحاً نفسه كبديل للعروبة السياسية "القومية" كمرجح وحيد للهوية، وكان مكتسحاً في الثمانينيات والتسعينيات، ولكنه بدأ يخبو مع دخول الألفية الثالثة الميلادية، ولكنه لا يزال قوياً ومؤثراً.

حقيقةً، إن الإسلاموية كانت موجودة على الساحة السياسة على الدوام منذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 على يد حسن البنا، التي اكتسبت زخماً كبيراً وعاطفياً مع إعدام سيد قطب (1906-1966)، إلا أن هذه الإسلاموية لم تكن نداً أو منافساً حقيقية للقومية قبل هزيمة 1967، فقبل تأسيس جماعة الإخوان المسلمين كحركة دينية سياسية، كان الدين الإسلامي أحد روافد الهوية، بل كان رافداً أساسياً فيها، ولكنه لم يكن مسيساً، بل كان رافداً وجدانياً وثقافياً أكثر من كونه أساساً أيديولوجياً لسلوك سياسي مؤثر في نطاق جماهيري واسع، إلا إذا استثنينا جمال الدين الأفغاني (1838- 1897)، الذي كان أثره نخبوياً، وليس جماهيرياً، وعلى نطاق محدود في مصر خاصة.

كلا التيارين الأيديولوجي، القومية (العروبة السياسية)، والإسلاموية (الإسلام السياسي) رغم استمرار تأثيرها المتناقض على هوية الفرد في المنطقة العربية، فإنهما لم يعودا يشكلان خطراً كبيراً على تلك الهوية المتجذرة يوماً بعد يوم، ونقصد بذلك الهوية الوطنية التي رسخت كثيراً بعد تبلور الدولة الوطنية كمرجعية رئيسة للهوية، سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة.

الخطر الأكبر على الهوية الوطنية هو "الشوفينية" القطرية المتنامية هذه الأيام، من خلال العودة المسعورة لدى البعض للتاريخ، ومحاولة إحياء نعرات شعبوية، إن صح التعبير، قديمة لتجذير وطنية متعالية كمصدر للهوية، نافية صراحة أو ضمناً أي مصادر أخرى، وهو أمر لا يقره علم أو تطور تاريخي لمسألة الهوية.

فالهوية في نهاية المطاف "كائن حي"، أو لنقل إنها كيان في حالة صيرورة دائمة، وليست وثناً متخشباً لا يعرف التغيير يأكله في النهاية العث وحشرات الخشب.

وفي ذلك يقول علي وطفة، في توطئته لكتاب "الهوية": "الهوية ليست كياناً يُعطى دفعة واحدة وإلى الأبد، إنها حقيقة تولد وتنمو، وتتكون وتتغير، وتشيخ، وتعاني الأزمات الوجودية والاستلاب" (أليكس ميكشيللي: الهوية، دمشق، دار الوسيم، 1993، ص7).

فنجد مثلاً من يبحث عن الهوية العربية في أعماق تاريخ قديم، بل موغل في القدم، بعيداً عن أي تطور لاحق، أو حتى في صفاء عروق لم يعد له أي معنى مع اختلاط الشعوب والحضارات والثقافات والأعراق، أو من ينقب عن هوية بابلية أو فينيقية مندثرة، أو غير ذلك من هويات تاريخية كانت ثم بادت.

فإن كانت الهوية القومية سيَّست العروبة، والإسلاموية سيَّست الإسلام، فإن الشوفينية شوَّهت الوطنية، واختزلته إلى نوع من العنصرية البغيضة، وعرقية مجموعة.

فأن تكون وطنياً منتمياً إلى هذه الجنسية أو تلك من الجنسيات العربية مثلاً، لا يعني احتكار العروبة، أو نفيها، فتلك الحَدّية تعرقل الهوية وتحد من نموها وتطورها، وهي الكيان الذي لا يعرف الجمود، ولا يحيا في السكون وبرك الماء الآسنة.

فنحن في النهاية في هذه المنطقة من العالم عرب الثقافة، فالعروبة انتماء ثقافي في النهاية، بعيداً عن العرقية والتسييس، والعربي هو من انتمى إلى هذه الثقافة، مهما تعددت أوطاننا وجنسياتنا، ومن خلال ذلك ينتهي التناقض المصطنع بين الهوية الوطنية وروافدها من ثقافية وقومية ودينية، بل ويندمج الكل في واحد، ويذوب الواحد في الكل، من دون تناقض أو إقصاء أو اختزال يطول الحديث عن حقيقته، ولكن يدركنا حيز المقال، فنسكت عن الكلام المباح وغير المباح.