أعترف أن صبري محدود حين يتصل الأمر بالحكم على الناس، خصوصا من هم من أهل القلم. لست أدري ما إذا كان هذا الموقف من الفضائل، لكن ما أنا بنادم على أي حال، فقد وفّرت على نفسي مشقة ما بعدها مشقة، ووقتاً كان يمكن أن أصرفه في غير طائل، لو أنني ثابرت على قراءة كاتب استشفيت من أول مقال له، أو من أول صفحة من كتابه، أن ثقافته غير ثقافتي. هذا لا يعني أنني لا أؤمن بحرية الرأي والمعتقد، وأن ما أعتقده هو الحقيقة المطلقة التي لا تشوبها شائبة. أسوق هذه السطور بعدما قرأت في "النهار"عن "تجمع وطني لأهل السنة" دعا إليه السيد رضون السيد في مؤتمر صحافي. أعترف أنني لم أكن أعرف عن رضوان السيد، إلا أنه كاتب ذائع الصيت، قرأت اسمه ورأيت صورته مرات كثيرة في صحيفة "الشرق الأوسط"، واذكر أنني قرأت له مقالين أو ثلاثة لم أستغها، إذ وجدت فيها نزعة دينية لا تتفق وثقافتي، ومن يومها لم اقرأ له كلمة واحدة إضافية. هذا لا يعني أن السيد على خطأ، وأحكامي صحيحة، فلكل شيخ طريقة، كما يقول طلبة الجامع الأزهر، لكن الذي يدفعني للرد عليه حقاً، هو إعلانه عن هذا التجمع الذي آثر أن يسبغ عليه صفة "الوطنية"!
لست من أهل السياسية ولا من كتابها، ولا علاقة لي بالسياسة، لا من قريب ولا من بعيد، ولن أنتقد سياسة السيد بناء على عقيدة سياسية أومن بها. هذا ليس شأني. السيد حر في أن ينتمي إلى التيار السياسي الذي يراه مناسبا، لكن آخذ عليه موقفه هذا الذي يعتقد انه موقف وطني، وأراه خلطة غريبة فيها إساءة إلى السياسة وإلى الدين معاً، ولا يختلف موقف صاحبها عن موقف الأحزاب الدينية، التي تتخذ الدين شعاراً، مثل "حزب الله"، الذي ينتقده رضوان السيد تحت شعار يقول أنه "وطني"، وهو ليس وطنياً على الاطلاق.
دفعني الخبرعن هذا التجمع إلى أن أتعرف إلى خلفية صاحب المؤتمر الصحافي، لأقف على خصاله ودقائق فكره، ولأعرف من أي نبع استقى هذه النزعة الدينية الظاهرة أو الباطنة في كتاباته، ومواقفه السياسية، فإذا سيرته الذاتية الكبيرة التي وضعها على "الإنترنت" والمؤلفة من 23 صفحة، تفيد أنه درس في الجامع الأزهر، وتخرج في كلية أصول الدين (قسم العقيدة والفلسفة) وحاز فيها درجة العالمية "الليسانس"، وحاز أيضاَ دكتوراة الدولة في الفلسفة (قسم الإسلاميات) من جامعة "توبنغن" في ألمانيا. سيرته هذه تفصح أيضاَ أنه حاضر في ندوات ومؤتمرات كثيرة، وتقلد عدداً كبيراً من الوظائف والمناصب، ولا أذكر اني قرأت سيرة ذاتية ضمت هذا العدد الوفير من "الإنجازات"، ما يدعو إلى العجب حقاً، ويحملنا على التساؤل حول عقيدة الرجل ومنهج تفكيره. في مؤتمره الصحافي الذي عقده بمنطقة الأشرفية في بيروت قال السيد "إنه قرر مع مجموعات من أهل السنة" تأسيس تجمع "وطني"، وأردف: "إننا مقتنعون بالعيش المشترك، وبنهائية الكيان اللبناني، وبالمواطنة الكاملة، وبالشرعيات الثلاث: الشرعية الوطنية الدستورية الديموقراطية، والشرعية العربية، والشرعية الدولية" مضيفا "أن هذه الشرعيات تأسس عليها لبنان واجتاز بها سائر الأزمات"، إلى قوله "إن المشكلة وطنية عامة وليس لها إلا حل وطني، والتجمع الوطني الإسلامي اللبناني هو جهد جديد من أجل لبنان الدولة والوطن والدستور والعيش المشترك".
قلت إن سيرة السيد تحملنا على التساؤل، لكن كلامه في المؤتمر المذكور، لا يدفعنا إلى التساؤل حول عقيدة الرجل ومنهج تفكيره فحسب، بل إلى الشك فيهما أيضاَ، وذلك بما في هذا الكلام من "خلط" وتناقض ظاهر. فضلاً عن ذلك، استخدم السيد في مؤتمره ذاك عبارة "قوة التوازن"، بمعنى أن لا تكون هناك غلبة فريق على آخر، أو "توازن القوى المتقلب والمسبب لانعدام الاستقرار" على حد قوله. هل فهمت شيئا أيها القارئ الكريم من عبارة "توازن القوى المتقلب والمسبب لانعدام الاستقرار"؟! لن نعلق كثيراً على هذا الارتباك، لأن ما نرمي إليه حقاً هو هذا الوهن الوطني الذي يعتري منهج الكاتب، وهذه النزعة الدينية التي لا تستقيم معها الفكرة الوطنية الجامعة، ولا فكرة الدولة اللبنانية العلمانية التي يريدها الجيل اللبناني الجديد الذي مثله حراك 17 تشرين خير تمثيل، واستشهد به رضوان السيد، لكن من غير أن يعي الوعي كله، عقل هذه الأجيال اللبنانية الشابة وفكرها وفلسفتها. كيف له أن يعي ذلك، وهو يستخدم عبارات طائفية مثل "أهل السنة" "؟! ما الفرق هنا بينه وبين من يقول "شيعة شيعة"، وبينه وبين "حزب الله" الذي يصفه رضوان السيد بأنه "راديكالية شيعية"؟!
على رسلك أيها السيد السيد. أنت لم تلفظ كلمة مدنية في كلامك ولا كلمة علمانية، وهذه ليست في قاموسك الثقافي! أنت تريد لبنان الطوائف ولا شيءغير لبنان الطوائف، وتكتفي بالقول إن "هذه الشرعيات الثلاث " التي تأسس عليها لبنان جعلته يتجاوز بها سائر الأزمات". هل صحيح أن لبنان تجاوز أزماته بهذه الشرعيات الثلاث؟! يكفي دحضاً لما تقول، الحرب الأهلية التي دامت 15 عاماً، تكفيك فاجعة المرفأ، وتكفيك ذيول اتفاق القاهرة، وذيول اتفاق الطائف، حتى لا أعدد سائر الأزمات! في كلامك أيها السيد السيد إساءة للدين كفعل إيمان، وإساءة للسياسة كموقف وطني. من ثمّ أريد أن استخدم كلمة "التوازن"، هذه التي استخدمتها، واحتكم بالحكم عليها على القرآن، وهل في هذا القرآن "سنة" و"شيعة" حتى تأتي بهذه التصنيفات العنصرية، والقرآن يقول "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، إن اكرمكم عند الله أتقاكم"؟ والقائل في موضع آخر "إلى الله مرجعكم فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون"!
هذا حكم القرآن على ما تقول أيها السيد السيد. اما في الوطنية فأريد أدق الموازين، وأقول لك إن لا شيء في كلامك من "التوازن". تتحدث في الوطنية، وتعزف اللحن الذي يعزفه أصحاب النزعات الطائفية. تستخدم مصطلحات مثل "مجموعات من أهل السنة"، وهي لا تقل خطرا على الوطن من خطر من يقول "شيعة شيعة"، أو خطر من حمل عصا الدفاع عن حقوق "المسيحيين" وكانت له فيها مآرب أخرى! إن كل ما تقوله وتفعله ايها السيد السيد يوصل إلى هذه النتائج، سواء كان ذلك في بالك أو لم يكن، وها هي إسرائيل، بفعل هذه النزعات القبلية والطائفية التي تنمو في الدول المجاروة لها، قد أصبحت كبرى قبائل المنطقة وأقواها، "قريش الشرق الأوسط" تتحكم بما حولها من القبائل الضعيفة!
كيف تريد لبنان أن يكون حراً متجانساً، وأنت تدعو إلى تجمع وطني من "أهل السنة"، وما معنى قولك أهل "السنة" أيها السيد السيد ؟! إن قولك هذا، لا يستقيم إلا في نظام الطوائف الذي كان ولا يزال وبالاً على لبنان، ولم يجلب عليه غير الخراب والدمار، هوعلّة بلدنا الكبرى التي صار يعرفها الكبير والصغير، والقريب والبعيد، وها أنت يا سيد السيد، تنعش هذه العلة من حيث لا تدري، و"الله" أعلم في السرائر، وبما تخفيه الصدور! تأخذ "حزب الله" تعلّة، وتريد أن تحاربه بعصبية مماثلة، وتنسى أن تاريخ الشعوب والحروب ما فتىء يعلمنا أن العصبيات تولّد العصبيات. لست من الذين يعتدّون بكتب السيرة وكتب الحديث لفهم تاريخ الإسلام، لكن أعرف من تفكيرك وأسلوبك في الكتابة، أنك تأخذ بهذه الكتب، لذلك سأذكّرك بما جاء فيها عن لسان النبي القائل:" ليس منا من دعا إلى عصبية، أو من قاتل من أجل عصبية، أو من مات على عصبية"، حديث ذكره البخاري في "صحيحه" ونقله مسلم في "صحيحه" أيضاً.
لك الحق كل الحق أن تنتقد "حزب الله "، فهذا الحزب ليس معصوماً، وألفت نظرك إلى أنني لست مع هذا الحزب في شيء، وقد انتقدته غير مرة. لم انتقده من موقع الكراهية، لأن من العيب اي يكره لبناني لبنانيا، أو يكره أي امرىء في هذا العالم، ولو كان يهوديا، علماً بأن المنضوين في هذا الحزب، وفي سائر الأحزاب، مواطنون لبنانيون، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، وما هذا التفسخ الاجتماعي الذي يشهده لبنان، إلا نتيجة حزينة من نتائج نظامه الطائفي العنصري الذي يعانيه الشعب أشد المعاناة، والذي لا يمكن تغييره إلا بصحوة عامة تقضي على خلطة الدين بالسياسة، حفاظاً على الدين وعلى السياسة. انتقدتُ "حزب الله" من موقع وطني يدعو إلى لبنان حر سيد مستقل عن كل ما هو"غريب"، سواء كان هذا "الغريب" من الشرق أو من الغرب، ويدعو إلى دولة مدنية علمانية، هي في رأيي الحل الوحيد لهذا البلد المعذب المقهور، الرازح تحت حكم زعماء الفساد والطوائف، أما انتقاد "حزب الله"، أو أي حزب آخر، من موقع كراهية وتعصب كما في نهج بعض الغلاة، فطائفية مقيتة وعصبية هوجاء، تضر بالوطن، وتعزّزمناخ العصبيات الدينية الذي لولاه لما ظهر "حزب الله" واشتد ساعده، والذي من هذا المناخ وحده استمد هذا الحزب ولا يزال، يستمد ماءه وهواءه.
بقي من الحق أن أشير إلى أن رجل السياسة الوصولي في لبنان، لا يتمكن من التحكم بمفاصل الدولة إلا بوسيلة من وسائل أربع: أما بالسلاح الخارج على الشرعية، وأما بالمال ينفقه يميناً ويساراُ، ويتبوأ به أعلى المراكز، وأما بالسلاح الثالث، عروقه التي تجري فيها دماء إقطاعية، أما من افتقرت جعبته، إلى أحد هذه الأسحلة الثلاثة، ويسعى إلى منصب في دولة الفساد هذه، فليس أمامه إلا الركون إلى السلاح الرابع، هو هذه اللغة الطائفية القاتلة للوحدة الوطنية، والتي ما زالت، ويا للأسف، عذبة على قلوب الخراف الضالة من هذا الشعب المغلوب على أمره، واعذرني إذا قلت لك يا سيد السيد، أن ما جاء في مؤتمرك الصحافي ذاك، لا يمكن تفسيره إلا أنه من رابع هذه الأسلحة!