كانت المشاهد المتتالية منذ ظهر يوم الجمعة الماضي مهيبة ومفزعة. أشبه بخروج توراتي. طوابير السيارات اللامتناهية تزدحم في كل الاتجاهات، هروباً من العاصمة وذهاباً إلى الأرياف، لقضاء فترة الإغلاق الشامل. كل من يملك فرصة لترك بيروت واللجوء إلى أي مكان آخر، لم يتردد.
هذا الفرار الجماعي لا يشبه تقاليد قضاء عطلة الأسبوع في القرى ومساقط الرأس وجبال الاصطياف، بل هو أقرب إلى الخروج الاضطراري تخفيفاً لوطأة البقاء في مكان لم يعد مغرياً الاستقرار فيه.
بكل وضوح، الحياة لم تعد محتملة في المدينة المنكوبة الغارقة بكآبات متراكمة. مدينة مريضة وخانقة ومختنقة. وحال سكانها مزيج من الحزن الدائم والاستياء والإحباط العميق. سكان مهزومون بالكامل. إنها "تروما" وطنية، إذا جاز التعبير.
يروي صديق عن ابنه الذي خسر زميلاً وأم زميل آخر في صفه المدرسي، يوم انفجار آب، وكيف أن 11 زميلاً في صفه غادروا البلاد مع أهلهم. الابن في الصف الثانوي الأول وبالكاد أقتنع بالمكوث بقية هذه السنة في لبنان، على وعد أهله أن يغادر في الصيف المقبل. ابن 15 عاماً يريد الهجرة فوراً. وعلى منواله، يغادر طلاب الجامعات، الأطباء، الممرضات والممرضون، المهندسون، رجال الأعمال، التجار، كل من يملك مهارة وتحصيلاً علمياً أو رصيداً أو حتى وسيلة للسفر و"اللجوء" لا يتردد في قراره. رغم كل العوائق التي تحكم السفر حول العالم بسبب جائحة كورونا، مضاف إليها سياسات الحد من الهجرة، ورغم الأحوال الاقتصادية المتردية في بلاد المهجر، يبحث اللبنانيون عن أي فرصة، مهما كانت، لترك لبنان الذي ما عاد هناك شك أنه وقع وانفرط عقده وتهاوت مقوماته.
ليس الإفقار ولا الضيق الاقتصادي سببين كافيين لهذا النزوع الجماعي نحو الهجرة. كلام البطريرك الراعي بعظة الأحد عن "إسقاط لبنان الكبير"، من الصرح المؤسس لهذا الكيان، يدل بلا مواربة على فداحة المصير الذي آل إليه.
أبعد من التشاؤم السياسي، وأعمق من موت النظام، وأسوأ من الكارثة الاقتصادية. الغد نفسه بات متعذراً. هذا هو رعب اللبنانيين الذين يندفعون إلى الهروب منه، رعب النهاية المشؤومة، بما يشبه خوف شعب الأزتيك اليومي أن لا تشرق الشمس.
من يتجول ويعيش في بيروت، سيقع سريعاً تحت وطأة الشعور بتفكك المدينة وتحللها. مدينة تتبعثر جماعاتها وتتمزق علاقاتها وتخسر فضاءاتها الجامعة، كبيت مهمل ومتصدع. المؤسسات والمتاجر والشركات والمشاريع تتهاوى، فيما إفلاس الدولة وفقر الحال يمعن في اهتراء البنى التحتية. الأنشطة العامة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية معطلة تماماً.. الحياة اليومية أقرب إلى تدابير "تقنيات البؤس" (حسب عنوان رواية رشيد الضعيف). لم يبق من شروط ومعاني العاصمة سوى حجمها الجغرافي وكثافتها السكانية، دون أدوارها وأنماط عيشها وظواهرها وصورها. ما كانت تقدمه بيروت اختفى تقريباً. ذوت حيويتها وانطفأت تلك الروح الوثابة التي كانت تصنع مفاجآتها الصغيرة اليومية، تماماً كما كان قد حدث للمدن الأوروبية التي وقعت تحت السيطرة السوفياتية. مدن الصمت والضجر والقنوط والمحروسة بأيديولوجية الحزب الحاكم.
ما يحدث في لبنان هو انتقال قسري، رغم إرادة الشطر الأوسع من اللبنانيين أو على غفلة منهم، إلى بلد آخر بهوية أخرى وقيم أخرى، بلد بلا حريته ولا دولته.. أقرب إلى دمشق وصنعاء وكاراكاس أو حتى غزة.
ما يحدث في لبنان لا يحتاج حرباً تطهيرية على منوال ما أصاب سوريا، كي يبدأ اللبنانيون هروبهم.. خروجهم الكبير نحو أرض موعودة جديدة.
التعليقات