سيكون انتقال الصين إلى منافس حقيقي لأمريكا حسب بعض الاستراتيجيين والاقتصاديين، سبباً لبروز جيل جديد من الحروب الباردة التّي ستدور رحاها بينهما، حول كيفيات الاستقطاب والتأثير، ويعتبر انجرار أوروبا إلى هذه المنافسة ّ والتواجد كطرف في هذه الحرب خطأ تاريخيّاً سيضر بها كثيراً، لأنّ التحيّز سيفقدها حسن التموقع بين أقوياء هذه الحرب، كما أن أي خطأ في التموقع للدول العربية ضمن هذه المعادلات الكبرى سيكلفها كثيراً، نظراً لهشاشتها العامة التي لن تتحمل أبداً التداعيات الكارثية للعصر الفيروسي المقبل.

إن المخرج الوحيد للعالم العربي بعد كوفيد، هو تجاوز المآزق السياسية وخلق توازنات جديدة مع الأطراف المتنافسة اقتصادياً وتكنولوجياً، لكن النجاح في إعادة هذه التوازنات يفترض أساساً إرادة سياسية لفض النزاعات بين العرب أنفسهم والعمل على سنّ سيادة اقتصادية تنطلق من تأهيل منظومة التعليم والقيم، وتبني رؤية ناجعة للاستثمارات ومحاربة الفساد وربط المسؤولية بالمحاسبة.

بعبارة أخرى، إن النتائج الأكثر وضوحاً في المستقبل القريب، حدوث فرز اقتصادي تكنولوجي يؤثر في السياسي والدبلوماسي ويوجّههما، ويمثله محوران: محور الولايات المتحدة ومحور الصين، أمّا أوروبا فستتخلّف عن أن تكون محوراً ثالثاً، لأن عدم تضامن الاتحاد الأوروبي بحلول الجائحة، أفقد ثقة الأفراد والفاعلين الاقتصاديين في جدوى الاتحاد نفسه، ما ستكون له نتائج سلبية على الاقتصاد والاستثمار.

سيعرف العالم أزمة جيو ـ اقتصادية شاملة ومركبة تتداخل فيها تحديات الأنظمة الصحية والاقتصادية والتكنولوجية والإنسانية والثقافية، وسيفرض هذا الأمر على الدولة التدخل المباشر في إيجاد الحلول، أو اندثارها، غير أنّ هذا التدخل سيكون بمنطق اعتبار الديمقراطية وحقوق الإنسان غير ذي أولوية أمام هول هذه الأزمة، ما سيمكنها من الرجوع إلى مركز قوّتها والتحكّم في تدبير الأوراش الإنمائية والاجتماعية بحجة كونها دولة حامية.

إن العودة إلى تمركز الدولة سيعيد طرح مشكلة الديمقراطية وحقوق الإنسان إلى الواجهة السياسية والحقوقية على نحو مختلف، وبذلك ستبرز إشكالية جديدة في العالم بعد الفيروس، وهي إشكالية الحضور والتعارض بين تمركز الدور الحمائي للدولة وبين المطلب السياسي والحقوقي الذي لن يستطيع الفرد في بعده الاجتماعي التخلّي عنه.

وفقاً لهذه الاعتبارات جميعها، سيبرز سؤال تنويع القيم بما يجعل الإنسان المحور الأساس في كل برنامج تنموي وتحديث الدولة والمجتمع.

لن تصبح وفق هذا السؤال، الهيمنة الاقتصادية بخلفيتها الليبرالية المتوحشة تسود كما السابق، لأن الاقتصاد العالمي سيكون مجبراً على أن يكون اقتصاداً اجتماعيّاً بالأساس، بنفَس حوكمي جديد يختلف عن مفاهيم الحوكمة التقليدية التّي ميّزت العالم سابقاً.

ومن تحدّيات هذه الحوكمة، إحداث مراجعات اقتصادية وتجارية بين دول الجنوب ودول الشمال، هدفها تقويض هيمنة الليبرالية المتوحشة كما كانت من قبل، وجعل المجال الاجتماعي والإنساني في العالم مجالاً مشتركاً ينتصر لقيم الكفاءة والابتكار والتضامن الدولي والسلم، بهدف بناء ترسانة دولية إنسانية وعلمية قادرة على مواجهة ويلات العصر الفيروسي المقبل.