يلجأ كثيرون إلى نظرية المؤامرة لتفسير سقوط احتجاجات “الربيع العربي” في مصر وسوريا وليبيا، لكن المؤامرة لوحدها لا تقدر على هزيمة الثورات وتبديد جماهيريتها التلقائية في أول ربيع تونس ومصر ثم سوريا، فهناك عناصر من داخل تلك الثورات ساهمت في خسارة الحضن الشعبي، وهو ما كشفت عنه تجربة تونس التي تستمر إلى الآن.

كانت شعارات مختلف تلك الثورات تتركز حول الخبز ومقاومة الفقر والبطالة والمطالبة بحرية التعبير. ما حصل أن الشعارات الرئيسية سقطت كلها ولم يبق منها سوى حرية التعبير، وقد استفادت منها الأحزاب الراديكالية التي لم تكن تمتلك في سجلاتها سوى بيانات التنديد بفشل دولة ما بعد الاستقلال في إدارة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية.

وحين استلمت هذه الأحزاب الحكم، سواء بشكل مباشر أو في تحالفات هجينة تجمع بين الإسلامي والليبرالي ووسط اليسار، لم تقدر على إدارة السلطة لغياب علاقتها بالدولة والمؤسسات سوى تصورات هلامية عن الدور الاجتماعي للدولة والتأميم ورعاية الفقراء.

ولأجل التغطية على هذا العجز عملت الأحزاب على تضخيم الجانب السياسي في الثورات، وبات الهدف الوحيد هو تنظيم الانتخابات وبناء مؤسسات الحكم السياسي، وفي مرحلة لاحقة صار الهدف منع الاستقرار السياسي ذاته خوفا من اكتشاف محدودية تلك الأحزاب في إدارة الشأن العام.

منذ 2011، عرفت تونس ثماني حكومات متتالية، ولم تحصل أي حكومة على الوقت الكافي لتنفيذ برنامجها الاقتصادي والاجتماعي، رغم أن البرنامج وضعته الأحزاب من بوابة البرلمان وصادقت عليه، وتحالفت بتشكيل تلك الحكومات.

حكم الإسلاميون في تحالف ليبرالي يساري في بداية الثورة (حكومة الترويكا 1 + 2)، وقامت هذه المرحلة على المغالبة في العلاقة مع معارضة أقصى اليسار ومع المنظومة القديمة التي عادت للظهور بقوة بعد اكتشافها محدودية الطبقة السياسية الجديدة. كان الهدف الأول لحكم الترويكا هو اختراق الإدارة المحسوبة على النظام السابق وإغراقها بأنصار الأحزاب الجديدة، وخاصة الإسلاميين، وهو ما أدى إلى ردة فعل قوية عطلت عمل الإدارة التي تحولت إلى ما يشبه الحزب السياسي في مقاومة عمليات الاختراق الواسعة.

وظهرت المغالبة على وجه الخصوص في التعامل مع رجال الأعمال والمستثمرين على أنهم خصوم، ليس أمامهم سوى الاحتماء بالأحزاب الوافدة والرضوخ لشروطها، أو مواجهة القضاء والسجون ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم. كما أطلقت تلك الحكومات الباب أمام فوضى الحرية لاستهداف الشركات والمؤسسات الخاصة والعامة وتعطيلها بالاعتصامات والإضرابات وفرض الإتاوات عليها من قطاع الطرق وعمال يريدون تقاسم إدارتها. وخلال تلك الفترة باتت الإضرابات هي العنصر الجامع لمختلف العمال والموظفين، ما أدى إلى إغلاق الكثير من المؤسسات والشركات الخاصة، فضلا عن إغراق مؤسسات القطاع العام بالوظائف الوهمية تحت ضغط الشارع.

ولم يختلف الأمر في الحكومات اللاحقة، فكان الهدف الرئيسي للحكومات هو شراء ود الشارع وإظهار قدر كبير من “الثورية” لحسابات انتخابية وسياسية حزبية، مع أن دور الحكومات، وأغلبها حمل شعار الوحدة والوطنية، هو وقف النزيف وتنفيذ إجراءات عاجلة لإنقاذ الاقتصاد.

في العام الماضي، تشكلت حكومة عنوانها الوسط الاجتماعي، ويرأسها إلياس الفخفاخ، وكانت قد حصلت على دعم “الحزام الثوري”، أي أحزاب ما بعد الثورة، واحتمت بدعم الرئيس قيس سعيد وأفكاره المثالية عن العدل والثورة والتغيير الذي يقوم عن طريق الشعب ومكافحة الفساد.

النتيجة أن حكومة الثوار سقطت بفعل شكوك الفساد التي توجهت إلى رئيسها وشبهات منح مزايا لشركات يعود جزء من ملكيتها لرئيس الحكومة، في وقت تقاتل فيه البلاد لمواجهة الموجة الأولى لوباء كورونا. كما سقطت بفعل الصراع بين الأحزاب الثورية على القيادة ومن يكون الأقرب للرئيس، وحصرت كل جهودها في المناورة السياسية، وظهرت تفاصيل عن خطط من حركة النهضة، الشريك في هذه الحكومة، لإسقاطها منذ انطلاقها بسبب وجود تحالف داخلي ضدها.

والآن تجري محاولات لإسقاط حكومة هشام المشيشي، وهي حكومة تكنوقراط تشكلت تحت الضرورة بهدف إنقاذ اقتصاد غارق في الديون في ظل إشارات حمراء من الصناديق المالية الدولية ومختلف المانحين من أوروبا والشرق الأوسط.

لكن الحسابات السياسية لم تترك الوقت لهذه الحكومة أي وقت لتنفيذ إصلاحات وبدأت من البداية دعوات لتعديل وزاري هدفه تسهيل هيمنة الأحزاب الداعمة لها في البرلمان، حركة النهضة و”قلب تونس”. ولمقاومة هذا الاختراق، التجأت حكومة المشيشي إلى الشعبوية ومغازلة الشارع باتفاقيات مثيرة للجدل بسبب رضوخها لمنطق القوة الذي اعتمده محتجون في الجنوب بإغلاق حقول النفط مقابل الحصول على امتيازات كبيرة. وبسرعة انتشرت احتجاجات شبيهة في مناطق أخرى توجد بها منشآت للنفط والغاز، ما أفضى إلى أزمة كبيرة في توزيع قوارير الغاز وتوزيع المحروقات في مدن الجنوب.

وكان راشد الغنوشي رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة، قد دعا في البرلمان إلى تمكين المناطق التي توجد بها منشآت نفط أو غاز أو فوسفات من استثمار جزء من العائدات لفائدتها، ما اعتبره خصوم سياسيون دعوة إلى تفكيك البلاد وتحريضا على الصراع بين المناطق.

وتقوم محاولات يقف وراءها الاتحاد العام التونسي للشغل (اتحاد العمال) لإجراء حوار وطني شامل شبيه بحوار 2013 الذي أفضى إلى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة مهدي جمعة، لكن ليس هناك أي ضمان بأن يكون الهدف إقرار رؤية مشتركة لإنقاذ الاقتصاد والتخفيف من الأزمة الاجتماعية الحادة وسط إشارات إلى وجود مناورات حزبية لإسقاط حكومة المشيشي واستعادة “حكومة الثورة” تحت غطاء التحالف مع الرئيس قيس سعيد واتحاد العمال.

لقد حول “ربيع تونس” البلاد إلى ما يشبه اللعبة السياسية الهادفة إلى التغطية على عجز شامل عن فهم الدولة وأساليب إدارتها، وهذا العجز هو ما يفسر الأخطاء الكثيرة التي وقعت خلال عشر سنوات من الثورة، تحت عناوين براقة وكأن “الثورة” ستخترع شكلا جديدا من الدولة.

إن أحزاب الثورة لم تخرج إلى الآن من مربع المعارضة، ولأجل التغطية على ذلك العجز، فهي على استعداد لبناء تحالفات مشبوهة في كل اتجاه، داخلية وخارجية، من ذلك السماح بإقامة قواعد عسكرية على أراضي البلاد، وهو ما ظل خطا أحمر في عهد من يتهمونه بالعمالة والارتهان للخارج، فضلا عن هرولة “الثوار” إلى الصناديق المالية الدولية واستجداء المانحين فرادى وجماعات للمزيد من إغراق البلاد في الديون مقابل استرضاء الشارع والحفاظ على “شعبية” السياسيين وحظوظهم في الانتخابات.

ليست الدولة في نظر الأحزاب الوافدة ما بعد الثورة سوى أداة لتحقيق الشعارات الطوباوية التي ظلت ترفع لعقود، لكنها سقطت في أول اختبار لها ليس فقط كبدائل لإخراج البلاد من أزماتها، ولكن في اختبار انتمائها الوطني، حيث ظلت أحزابا أقرب إلى “الأمة” العابرة للدول.