التحول للمعاصر، لا يضمن التحرر من المركزية الأوروبية
من الكتالوغ
قبل عامين، عرض المتحف البريطاني حذاء رياضياً للاعب كرة القدم المصري، محمد صلاح، بين بعض مقتنياته من مصر القديمة. الحذاء الذهبي اللون، من إنتاج شركة أديداس الألمانية، كان علامة، لا يمكن إغفالها، على سلسلة من التحولات طرأت على معنى المتحف، ودوره حول العالم. جاء العرض في سياق مشروع أوسع بدأ في العام 2016، عن مصر المعاصرة، بعنوان "الماضي حاضراً: أن تصبح مصرياً في القرن العشرين"، عرض خلاله مقتنيات من الحياة اليومية في مصر، منها ماكينات خياطة وإعلانات وصحف وأدوات منزلية، مقدماً كنموذج لآليات "تجميع الحداثة" المتحفية، المغايرة بشكل جذري لأدوار المتاحف بمفهومها التقليدي، أي تخيل الماضي وإنتاج التاريخ.
أخذ المتحف البريطاني خطوة إضافية في هذا الاتجاه، حين أصدر الشهر الماضي، الكتالوغ الأول لمقتنياته من الفنون المعاصرة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعنوان "تأملات" (تحرير/ فينيشيا بورتر). وتأتي تلك الخطوة للتأكيد على تحول موازٍ، فبالإضافة لصفة "المعاصرة"، التي بدأ يميل تجاهها المتحف التاريخي، فإن الاهتمام الغربي المتنامي بفنون المنطقة في العقدين الماضيين، أغرى المتحف غير الفني إلى اقتناء مجموعة فنية متخصصة منها.
بدأ توسع المتحف البريطاني في اقتناء الأعمال الفنية المعاصرة من الشرق الأوسط، منذ العام 2006 فقط، بعد معرضه التأسيسي بعنوان "كلمة في الفن: فنانو الشرق الأوسط الحديث". وتأسست بعدها مجموعة "اقتناء فنون الشرق الأوسط الحديثة والمعاصرة" في العام 2009، والتي تولى أفرادها المتطوعون توفير الدعم المالي اللازم للاستحواذ على المقتنيات. ويأتي كتاب "تأملات" ومعرض بنفس الاسم (من المفترض افتتاحه في فبراير القادم)، ليحتفل بمرور عشر أعوام على تكوين المجموعة وبنتيجة عملها.
يخصص الكتاب فصله الأول للفنون التصويرية بفروعها البورتريه والمنظر الطبيعي والطبيعة الساكنة وغيرها، والفصل الثاني للفنون غير التصويرية، التجريدية والهندسية والحروفية. يمهد الفصل الثاني بتجريداته المتأثرة بالأساليب التراثية للزخارف والمنمنمات والأبجدية العربية إلى خصوصية الأقسام اللاحقة من الكتاب. فالفصل الثالث المعنون بـ" الماضي هو الحاضر" يتناول معالجة فناني المنطقة للماضي من زاوية الحاضر، والعكس أيضاً، أو ما يمكن إيجازه في معضلة "الأصالة والمعاصرة" التي هيمنت على فنون المنطقة والنقاشات حولها لوقت طويل. يتبع ذلك أعمال لعشرات الفنانين، موزعة أعمالهم على أربعة فصول بعناوين: "الدين"، "نظرة المرأة"، "الصراع السياسي والثورة والحرب"، و"إين الوطن؟".
وفيما يتوسع مفهوم الدين ليشمل المسيحية واليهودية بالإضافة إلى الإسلام، ويقدم فصل "نظرة المرأة" عرضا ثريا لمساهمات النساء الفنية في المنطقة وعن موقعهم داخل مجتمعاتها، فإن الفصول الأربعة الأخيرة تبدو كإعادة تأكيد للتنميطات الغربية. فتيمات الدين والمرأة والسياسي بالإضافة إلى الهجرة تظل الركائز الأربعة لفهم المنطقة وقبول فنونها والتعامل معها.
تقتصر المقتنيات في معظمها على أعمال فنية ورقية، باستثناءات قليلة، مثل عمل برونزي حروفي للإيراني، بارفيز تانفولي (مواليد 1937)، ومزهرية من الصيني مزينة بمشاهد من الحرب الأهلية للبناني، رائد ياسين (1979). وعلى الأرجح فأن التركيز على الأعمال الورقية راجع لانخفاض تكلفة اقتنائها مقارنة باللوحات الزيتية مثلاً... والحيز الأصغر التي تحتاجه للعرض والتخزين، في المتحف المكتظ بالفعل. تتضمن المجموعة عددا معتبرا من الكتب الفنية، أو ما كان يطلق عليه "الدفاتر"، أما فنية خالصة، أو تتضمن تعاوناً مع شعراء من المنطقة وأحيانا خارجها، ويظهر اسم أدونيس تحديداً مرات عديدة، وفي أحيان أخرى تضمنت الدفاتر سرد ونصوص بيد الفنانين أنفسهم. دفاتر العراقيين، عمار داوود (1957) وضياء العزواي (1939)، وكتاب السوري زياد دلول (1953) تكشف عن الدوافع البراغماتية لخيار الكتاب الفني، في البلدين، تحت ظروف الحصار وفي ظل نقص الموارد ومحدودية فرص عرض الأعمال الفنية الأكبر، كاللوحات والمنحوتات، أمام الجمهور.
يحتوى الكتاب على عمل لفنان إسرائيلي واحد، هو ميكال روفنير (1957) ويظهر أن تضمين العمل، جاء رمزياً لتأكيد تغطية مجموعة المقتنيات لكل دول المنطقة. يقدم "تأملات" عدد محدود من الأعمال لفنانين أتراك أيضاً، لكن الحضور الإيراني يبدو طاغياً بشكل استثنائي. فالفصل الأول على سبيل المثال، يحتوي على أعمال لفنانين لبنانيين، ولاثنين من سوريا واثنين آخرين من تونس، وفنانة سعودية وعراقي، فيما تضمن أعمالا لـ 13 فنانا وفنانة من إيران.
اللافت أيضاً هو أن غالبية ملحوظة من الفنانين المعروضة أعمالهم، تلقوا دراستهم أو مرحلة منها في الغرب أو يعيشون بشكل دائم هناك، والجيل الأصغر سناً منهم معظمه ولد في الغرب، وفي أحيان أخرى ينتمي أحد الوالدين فقط للمنطقة، وتظهر بعض التجارب الفنية المتضمنة للفنانين الشباب المولودين في الغرب، كمغامرة للبحث عن الهوية المفقودة أو كرحلة شخصية لاكتشاف أرض الآباء. وفي بعض أجزاء الكتاب بدت المجموعة كمختارات لفنانين غربيين بخلفيات عائلية مرتبطة بالمنطقة أكثر منها أعمال من هناك، أو كتنويعة إثنية لإثراء المشهد الفني الغربي، والتأكيد على تعددية روافده، أو بالأحرى امتلاكه لفنون الآخر أيضاً.
فبالرغم من المحاولات المعلنة وفي الأغلب الصادقة أيضاً، لتجاوز التاريخ الكولونيالي للمتحف البريطاني، فإن التحول للمعاصر، لا يضمن التحرر من المركزية الأوروبية. فمن محمد صلاح، لاعب فريق ليفربول، إلى فناني "تأملات" يبدو العامل المشترك في أحيان كثيرة لتحديد استحقاقهم للعرض وتكريسهم في سياق عالمي، هو مدى علاقتهم بالغرب وبمؤسساته. تبدو تلك العلاقة بوضوح أكبر، وأكثر تسيساً في المقدمة التي كتبتها دنيا نادار للكتاب. لا في مضمون المقدمة نفسه، لكن صفة كاتبتها ، فـ"نادار" التي عُرفت كأحدى أكثر المتبرعات والمتبرعين سخاء لصالح شراء مقتنيات المجموعة، لا يتوفر الكثير من المعلومات عنها، سوى أنها أميركية الجنسية، وأنها تبرعت لصالح بوريس جونسون في حملته الانتخابية الأخيرة، وأنه عينها عضوة في مجلس إدارة متحف "والاس كوليكشن" قبل بضعة أعوام. هكذا وبجانب معايير أخرى، يحدد سخاء التبرعات وشبكة من العلاقات السياسية غير الواضحة، كيف يكرس فن عربي معاصر، ما الذي يعرض، ومن الجدير بالاعتراف وما الأسماء المستحقة للتضمين في مرجع لأهم متاحف العالم؟
التعليقات