يحدُث لي أحيانًا أن "ألْتقي" قصيدةً لي قديمة من عهد صباي أو مطالع عهدي الشعر، ويحدث لي حيالها بعض حياء وكثير من الأمل ألّا تكون "زارت" قرّاء كثيرين في حيثما صدرت، عكس شعوري أيَّامئذٍ لدى صدورها في صحيفة أو مجلة، يوم كان أملي أن يطّلع عليها قراء كثيرون يزيد منهم الذين أشير لهم أنا إلى قراءتها.

ويزيد من غصتي على ذاك "التسرُّع": صدورُ كتابي الأول باكرًا في مطلع شبابي قبل موسم النضج الأدبي، حتى أمسيت اليوم لا أجرؤ على مقاربته أو العودة إلى صفحاته، كي لا تستحي "أنا"يَ اليوم من "أنا"يَ المتحمسة عهدئذٍ لصدور اسمي، مؤلِّفًا، على غلاف كتاب.

يأخذني هذا الأمر الشخصي إلى ظاهرته العامة: الكتاب الأول.. هل يبقى صالحًا فيما بعد، حين يبلغ الكاتب موسم الجنى والحصاد؟ ليس في الأمر خلاف: ما يختلج في قلم الكاتب الشاب يتشح غالبًا في حينه بشعور الغرور والكبرياء، ويروح هذا الشعور يخبو تباعًا حتى يبلغ بصاحبه حدود الندم على تلك البواكير غير الناضجة، ثمارًا فجّة غير قابلة للتزوُّد ولا ناضجة للقطاف.

صحيح أن في تاريخ الآداب والفنون استثناءات ساطعة: الشاعر الفرنسي أرثور رمبو (1854 - 1891) نشر بواكير قصائده وهو في الخامسة عشْرة، توقّف عن الكتابة في العشرين، ومات شابّا في السابعة والثلاثين وما زالت قصائده، حتى بواكيرها، تُسيل حبرًا كثيرًا لجديد فيها عبقريّ. وكذا المؤلف الموسيقي النمساوي موتسارت (1756 - 1791) بدأ التأليف الموسيقي في الثانية عشْرة (أوبرا "باستيان وباستيينّا") وما زالت عروضها تعاد على أكبر مسارح العالم. وحين مات في الخامسة والثلاثين كان ملأ عصره مؤلفات موسيقية ما زالت حتى اليوم ذخيرة الأوركسترات العالمية.

إنما لا نُعمِّمَنَّ الاستثناء. القاعدة أن يحين القطاف يوم تصبح الثمار يانعة، لذا أنصح أعزاءَنا في الجيل الجديد من الكتّاب والشعراء أن يتمهَّلوا في نشْر بواكيرهم حتى يتهيّأ لهم موسم اليناع.

تمامًا كالحب، وليسمح لنا "البروفسور" الطائي أبو تمام في نصيحته أنْ "ما الحب إلّا للحبيب الأول"، فالتجارب العاطفية الأولى ليست سوى تعثراتٍ مرتجَلة حتى يشرق فجر الحب الحقيقي الذي قد لا يأتي سوى في خريف العمر ليحوّل بقية العمر ربيعًا دائمًا.

وأظن كتّابًا كثيرين في محيطنا الأدبي يشاركونني شعور الندم أو الأسف على ارتجالهم بواكير أُولى غير يانعة. فالأوّل ليس دائمًا أوّلَ، وما سوى الأثر الناضج يبقى خالدًا أوَّلَ في ذاكرة الزمان، فلا يشعر صاحبه بالخجل منه ولو بعد غيابه.