أحيانا أَخْتَبِر بعضَ ردودِ الفعل على أفكار سياسية معينة على الفايسبوك حين لا يتطلب الأمر أكثر من تقديم مُختزَل كمّياً للفكرة المطروحة، رغم الشعور بالمسؤولية الكبيرة عن أي فكرة يطرحها المراقب، بل بسبب هذا الشعور الدائم بالمسؤولية الذي أوليه، وواجبي أن أوليه، لأي طرح وعلى أي منبر كان من وسائل التواصل الاجتماعي أو في وسائل الإعلام. فما تتطلبه المقالة في الصحيفة من شرح تحليلي أو معلوماتي لا يزال هو الأكثر ضغطاً على الكاتب حتى لو أن المسؤولية الشخصية عن أي رأي هي نفسها حيثما ظهر هذا الرأي شفاهةً أو كتابةً. ومن حسن الحظ وبفضل جدية “فريندز” عديدين يؤمِّن الفايسبوك غالبا لي فرصةَ اختبارٍ ثمينةً تساهم في بلورة النص الصحافي كما لو أنه الصيغة “الأخيرة” لتجسيد الفكرة. ومع أن المعلق السياسي قد يعيش عمره المهني كله في حالة متكررة، بالتالي مؤقتة، ل “الصيغة الأخيرة” فلا غنى عن التفريق، الكمّي على الأقل، الذي فرضته علينا وسائلُ التواصل الاجتماعي بين الرأي الفايسبوكي أو التويتري أو الصحافي.

كتبتُ على صفحتي على الفايسبوك “التأمُّلَ” التالي بمناسبة النقاش المتجدد حول الفدرالية:
“هناك معضلة في علاقة المسلمين العرب بمفهوم الفدرالية: لا يستطيعون الاعتراف بهذا المفهوم على أساس محض ديني. في لبنان يعيشون الفدرالية الفعلية على أساس طائفي مناطقي(سني درزي شيعي مسيحي) وديني مناطقي (مسلم مسيحي).

العراق اخترق هذاالحاجز بسبب وجود العامل القومي الكردي العربي الذي سهّل عليه الأمر، لكنه بات يعيش الشيزوفرانيا نفسها في المجال الطائفي السني الشيعي. مجرد الاعتراف بالفكرة الفدرالية يعني، نظرياً فتحَ مصر المسلمة المسيحية على هذا المفهوم – الاحتمال، والمملكةَ السعودية على التقسيم المذهبي.

لذلك المسألة خطيرة مفهومياً بعمق على كل العالم العربي.

أعتقد أن المخرج الوحيد للمسلمين اللبنانيين من عبء هذه الشيزوفرانيا، هو إثبات وجود الدولة المركزية الفاعل في مناطقهم (ومناطق المسيحيين طبعاً). والحال أن هذه مهمة تعاكس جوهريا النظام الطائفي منذ تأسيس لبنان الكبير. وخصوصا النظام الطائفي بعد الحرب الأهلية 1975-1990 الذي كرّس ووسّع وعمّق الفدرالية المذهبية (دويلات الطوائف)والآن هناك دويلة إقليمية شيعية و”غير عربية” سياسياً قائمة واقعيا داخل لبنان مما يجعلنا أمام مأزق لا حل له سوى الاستمرار بالتأزم واللجوء إلى الحرب الأهلية الباردة والساخنة بين الحين والآخر. وهذا ينقلنا إلى فكرة الحرب الأهلية ك”استراحة” مفهومية في لحظة حراك الشيزوفرانيا” (انتهى البوست).

أثارت كلمة “استراحة” اعتراض البعض الذي فهمها وكأن الحرب الأهلية عمل “إيجابي”. لكن ما قصدته، هو أنها قد تتحول إلى مَخرج تفعيلي لتأزّم الشيزوفرانيا الجماعية السياسية اللبنانية، الحرب الأهلية الباردة أو الساخنة، الباردة التي نعيش دائما والساخنة التي تنفجر أحياناً ولمدد بعضها طويل، في حال دعمتها أو احتاجت إليها قوى إقليمية أو دولية (1958) أو (1975).

ما يستحق الدراسة هو كيف حوّلت الثقافة القومية العربية فكرة الحكم الذاتي وتاليا الفدرالية إلى نوع من التابو السياسي كسرته فقط في الإطار القومي لا الديني التجربة العراقية. فحتى في العراق لا تزال فكرة منطقة فدرالية شيعية وأخرى سنية تواجه الرفض نفسه من حيث الاعتراف بالمفهوم رغم التكوين الطائفي والمتعدد للنظام السياسي العراقي الذي بات يقوم على ثلاثية شيعية سنية كردية.

لقد بدأ القرن العشرون داخل الامبراطورية العثمانية مع تقدم لفكرة اللامركزية وتحفل مداولات مؤتمر فرساي بعد الحرب العالمية الأولى بمطالبات تتراوح بين الحكم الذاتي واللامركزية. حتى في لبنان تُظهر دراسة تمارا شلبي القيِّمة للحالة الشيعية في العشرينات من ذلك القرن في كتابها “شيعة جبل عامل ونشوء الدولة اللبنانية 1918- 1943” أن المطالبة بالحكم الذاتي لم تغب عن برنامج الكثير من النخب الشيعية العاملية ليس فقط كمطلب داخل “لبنان الكبير” بل أيضا داخل المملكة السورية الفيصلية التي أيدها مؤتمر الحجير المنعقد عام 1920 بدعوة من كامل خليل الأسعد الزعيم الرئيسي لشيعة جبل عامل في تلك الحقبة وقبلها النائب عن ولاية بيروت في مجلس “المبعوثان”، البرلمان العثماني. طبعا ينبغي أن لا يسقط من حسابنا أن “النموذج” في تلك السنوات الأولى من العشرينات كانت قيام الفرنسيين بتأسيس أربع دويلات غير “لبنان الكبير”: دولتا دمشق وحلب ودولة العلويين ودولة الدروز. لكن الحركة الوطنية السورية ستتبلور على مدى عقدين لاحقَيْن في اتجاه فرض توحيد سوريا وإلغاء الدول الأربع وقبول الفرنسيين بالنتيجة بهذا التوحيد وانتصار التيار التوحيدي عند كل من الدروز والعلويين. وعليّ أن أضيف هنا أن هذا الإرث التوحيدي النضالي يجعل سوريا نوعا من “دولة قومية” بينما انتصار تيار “لبنان الكبير”سواء لدى الفرنسيين أو لدى الموارنة بقيادة عنيدة من البطريرك حويك لم يُخرج لبنان من عقدة “الدولة المصطَنعة” التي أصابت كل جماعاته الطائفية لكن مع انتقال الاعتراض من نخب داخل الطوائف المسلمة في بداية المائة عام من عمر الكيانان 1920 إلى نخب داخل الطوائف المسيحية منذ عام 1975 أي في النصف الثاني من هذه المائة عام الرائعة والصعبة جدا.وعاد الاعتراض ليظهر الآن كما لا يفوت أي متابع لنقاش الفدرالية وكثافة الأصوات المسيحية المحترمة التي إما تتبنّاها أو تلامسها ببعض الخجل.

وبالعودة إلى كتاب تمارا الشلبي، وهي نصف اللبنانية من جهة الأم كريمة الرئيس الراحل عادل عسيران والعراقية من جهة الأب المرحوم الدكتور أحمد الشلبي، تنقل تمارا بعض المناقشات في أوائل العشرينات بين تيارين ديبلوماسيين فرنسيين في غمرة السجال الفرنسي البريطاني على حدود فلسطين تحت ضغط الوكالة الصهيونية على بريطانيا، الأول التيار الذي كان يمكن أن يقبل الطلب البريطاني أن تبدأ حدود فلسطين عند خط نهر الليطاني عند نقطة القاسمية شمال صور وبين التيار الفرنسي الذي أصر على ضم الجزء الجنوبي من جبل عامل وضمه إلى لبنان الكبير.ونجح في ذلك باستثناء تنازله عن عدد من قرى جبل عامل ضُمّت إلى منطقة الانتداب البريطاني على فلسطين.

اليوم تلجأ الطائفيّات السياسيةاللبنانية المتفدرلة واقعيا إلى مطلب اللامركزية وأحيانا الموسّعة كشعار غير خاضع للتحريم. المشكلة أن تَفسخ الطبقة السياسية لا زال يمنع تقاربها على إطلاق عملية تحديث للنظام السياسي عبر ترتيبات لامركزية تخفف قبضة القوانين المركزية للدولة اللبنانية رغم انهيار رصيدها الأخلاقي أي الرصيد الأخلاقي للمنظومة السياسية.

ذهب اتفاق الطائف بالشيزوفرينيا السياسية اللبنانية إلى الحد الأبعد. مكّن الطائفيات السياسية من التحكّم الكامل بالدولة المركزية دون أن يواكب ذلك بتغييرات تقلّل الطابع المركزي للقوانين.

انهيار طاقة ” الدولة الحلوب”بل جفاف وتجفيف البقرة نفسها من أي “حليب” سيدفع حكما إلى تغيير ولو بطيء في عادات الزبائنية السياسية اللبنانية ونظرتها إلى “النفوذ السياسي” على أنه يساوي القدرة على التوظيف داخل الدولة. وهنا نصل إلى معضلة ثانية مركزية جدا هي بلوغ الجشع السياسي أقصى حدوده التوظيفية داخل القطاع العام حتى عام 2018 والذي أظهر أيضا خفة أي عدم مسؤولية لدى المنظومة السياسية التي طالبها مؤتمر سيدر في ربيع 2018 بوقف التوظيف فعمدت في الصيف، جميعها بلا استثناء، إلى حشو القطاع العام بآلاف الموظفين بعد أن كانت في صيف العام 2017 قد أقرت بإجماع أحزابها سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام التي ظهر أنها قائمة على تقديرات مضلِّلة ومضلَّلة. وكل هذه الخطوات سبقت الانهيار المالي وسرّعت فيه.

إنه قطاع عام لا أحد يعرف بالضبط رقم موظفيه وقد يكون بلغ 350 ألف شخص لا يمكن عمليا تخفيضهم خصوصا أن جميع القوى السياسية تبدو أضعف بكثير من أن تتمكن من القيام بأي تخفيض جدي. من يعرف حجم موظفي العديد من البلديات التي تحوّلت شرطاتُها (جمع شرطة) إلى جيوش فرّغت فيها الميليشياتُ الحاكمة كل جشعها التوظيفي والفدرالي والأمني دون مردود يذكر سوى “الأمن الذاتي” غير المعلن؟

وحتى لا تأخذنا الحيثيات اللبنانية على أهميتها الفائقة، فالسؤال المعضلة الذي يجب تكراره بالعودة إلى ما ورد في “البوست” الذي كتبته على صفحتي على الفايسبوك، هو هل يملك المسلمون اللبنانيون “التفويض” العربي الكافي، من سوريا والأردن وفلسطين ناهيك أساساً عن مصر، لإقرار الفدرالية على أساس ديني، أو من المملكة العربية السعودية والخليج والعراق وسوريا وحتى تركيا وإيران لإقرار الفدرالية على أساس مذهبي؟وعلى سبيل المثال ورغم المآل الطائفي للنظام السياسي العراقي لم تنجح محاولة بعض الفرقاء الشيعة في إقامة إقليم فدرالي شيعي على غرار الإقليم الكردي. وهذا يشير إلى صعوبة وجسامة #الفدرالية الدينية حتى بنسختها المذهبية في بلد كالعراق تكرست فيه فكرة الأكثرية والأقلية على أساس مذهبي. وتوزيع السلطة المركزية في العاصمة على أساس قومي مذهبي.

ممارسة المناطقية الطائفية شيء، والمسلمون اللبنانيون اليوم أكثر فدرلة واقعية من المسيحيين اللبنانيين رغم ميل الأخيرين أو جزء كبير من نخبهم إلى فدرالية دينية معلنة ومشرعنة، والاعتراف بالفدرالية الدينية شيء آخر. معضلة وجودية ودينامية من التحديات البنيوية تقف أمامها المنطقة العربية ولبنان في المقدمة منذ تأسيس إسرائيل.

صحيح أن على المسيحيين اللبنانيين أن يقدّروا وضعية عدم القدرة على الاعتراف المسلم بالفدرالية الدينية لأسباب تتعلق بالمنطقة ككل، لكن لا يبدو أن نخب المسلمين المتنورة تتحمّل كفايةً مسؤولياتها في نقاش صريح لظاهرة فراغ المدن الساحلية، طرابلس وصيدا وصور، الفراغ الفعلي من الوجود المسيحي التاريخي فيها، مضافا إليها الفراغ نفسه في مدن داخلية أساسية كالنبطية وبعلبك على سبيل المثال الصارخ لا الحصري.