يجب التفريق دائماً بين الأقمار الفضائية التي تحلق لاستكشاف الفضاء الخارجي، وتلك التي مهمتها الأولى هي الإنصات والرصد والتصوير الفضائي لكل ما يحدث في الأرض. الأقمار الأميركية العادية مرتبطة بوكالة «ناسا» الفضائية، ومعظم مهماتها مدنية وسلمية وعلمية، وهي تُطلق في تواريخ وأوقات معروفة لجميع الدول، وتنقل انطلاقها قنوات التلفزيون الفضائية العادية، ابتداءً من دخول الرواد إلى المركبة، إذا كانت مأهولة، وانتهاء باختفائها في الأفق البعيد. ويتذكر كثيرون ما حدث للمركبة الفضائية «تشالنجر» في عام 1986، حين انفجرت في الجو بعد 73 ثانية من انطلاقها، ما أدى إلى وفاة روادها السبعة، وبينهم رائدتا فضاء. وقيلت في حينه عدة احتمالات لأسباب الانفجار، من بينها أن خزان الوقود قد انفجر، وضعف الحماية الحرارية، وعدم تناسب الأجنحة مع سطح المكوك. ووجود خلل في صهاريج الوقود وصواريخ الدفع، ما أدى إلى تسرب الوقود القابل للاحتراق فحدث الانفجار. لقد شاهد العالم كله عبر التلفزيون تلك الكارثة، ولم تكن القنوات التلفزيونية الفضائية معروفة كما هو الحال اليوم.
في العموم، وكالة «ناسا» هي المعنية بالأقمار الاستكشافية العلمية. أما أقمار التجسس الأميركية فهي مسؤولية سلاح الجو الأميركي حصراً، وهو موضوع هذا المقال. وفي الفضاء حالياً أقمار تجسس من مختلف الجنسيات من أميركا وفرنسا وبريطانيا وروسيا، إلى اليابان والهند وإسرائيل.
وعلى ذكر إسرائيل، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال بعد إطلاق قمر التجسس «أوفيك - 16» في يوليو (تموز) الماضي: «إنه سيزيد من قدرة إسرائيل في العمل ضد الأعداء القريبين والبعيدين». أما إيران فقد نجحت في العام الماضي في إطلاق قمر صناعي للمراقبة والتجسس، بعد محاولات فاشلة عديدة. ونشر «الحرس الثوري» الإيراني قبل أشهر صوراً التقطها القمر الإيراني تظهر قاعدة «العيديد» الجوية العسكرية الأميركية في قطر. وواضح أن الجهد الفضائي الإيراني موجه لدول المنطقة العربية، استكمالاً للتوجهات العدوانية والتوسعية الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وقال اللواء حسين سلامي القائد العام لـ«الحرس الثوري» الإيراني، إن القمر سيطور قدرات بلاده العسكرية في توسيع نطاق معلوماتها الاستخبارية الاستراتيجية، براً وبحراً وجواً، وفي الفضاء الخارجي أيضاً.
وإضافة إلى أقمار التنصت، أطلقت الولايات المتحدة أقماراً للتصوير التجسسي تدعى «ثقب المفتاح» Key hole، وهي تشمل رصد كل الأهداف بالصوت والصورة. وقرأت ذات يوم أنها تستطيع قراءة عناوين الصحف الكبيرة في أيدي القراء في الشارع أو الحدائق أو شرفة الشقة!
حين أطلقت قاعدة «كيب كانفيرال» في ولاية فلوريدا في عام 2009 أكبر قمر للتجسس على متن صاروخ عملاق يبلغ طوله طول مبنى من 23 دوراً، كان الهدف الأساس له هو مراقبة دول تصفها الولايات المتحدة بـ«الشريرة»، مثل إيران وكوريا الشمالية والصين وروسيا وبعض دول أميركا اللاتينية. وقيل حينها إن هذا القمر قادر على الإنصات إلى المكالمات الهاتفية التي تجري بين سيارات الأجرة ومراكز شركاتها والتشويش عليها!
في الظروف العادية، تستمر أقمار التجسس في العمل لمدة تصل إلى عشر سنوات، وتستمد شحن بطارياتها من الطاقة الشمسية. حتى عام 2017 أظهر إحصاء أجراه «اتحاد العلماء المهتمين» وهو منظمة أميركية، أن عدد الأقمار الصناعية الموجودة آنذاك في مداراتها على اختلاف مهامها، يبلغ 1419 قمراً، منها 146 قمراً لها مهمات عسكرية. وذكرت الإحصائية أن الولايات المتحدة تأتي في صدارة الدول التي تمتلك أقماراً بعدد 576 قمراً، تليها الصين بواقع 181 قمراً، ثم روسيا ولها 140 قمراً. لكن هذه الأرقام تصاعدت ووصلت في عام 2019 إلى 4635 قمراً تدور يومياً في مداراتها، حتى قيل إن هناك زحاماً في الفضاء يهدد رؤية الكون.
وانضمت اليابان إلى «نادي أقمار التجسس» بإطلاقها في عام 2017 قمراً خُصص لمراقبة كوريا الشمالية. وكانت طوكيو قد بدأت نشاطها الفضائي بأول قمر تجسس في عام 2003، عقب إطلاق بيونغ يانغ صاروخاً باليستياً متوسط المدى باتجاه اليابان وغرب المحيط الهادي في عام 1998. ولم يُعرف ما إذا كانت اليابان قد استعانت بالتكنولوجيا الأميركية في هذا الشأن، كما هو الحال مع إسرائيل.
وبعد أن أصبح الأمر شائعاً بين الدول القادرة، لم تعد أقمار التجسس سراً من الأسرار الخطيرة؛ بل أصبحت من دواعي المباهاة والتفاخر، ودليلاً كافياً لإثبات التقدم العلمي والعسكري للدولة صاحبة قمر التجسس؛ لكن أسرار نتائج عمليات التجسس نفسها تظل ملكية خاصة بالدولة المتجسسة، تفضي بها في الوقت الذي تختاره.
في التسعينات من القرن الماضي، حاولت الولايات المتحدة بكل أقمار التجسس ومجساتها أن تفك «لغز» أسلحة الدمار الشامل في العراق من دون جدوى. ورافقتُ مع مراسلي وكالات الأنباء والقنوات التلفزيونية والصحف العالمية فرق التفتيش الدولية في بعض جولاتها المباغتة، بحثاً عن أسلحة محرمة في مواقع محددة. وكانت هذه الفرق تحمل معها أجهزة اتصالات متقدمة بالصورة والصوت تربطها بالجهات التي تمثلها، مثل منظمة الطاقة الذرية، والأمم المتحدة، وسفارات بلدانها في بغداد، وأقمار التجسس، في الوقت الذي كان فيه الصحافيون العراقيون لا يحملون غير أوراقهم وأقلامهم، وكاميراتهم إن وجدت؛ لأن خدمة الهاتف الجوال (الموبايل) لم تدخل العراق إلا بعد الاحتلال الأميركي. وتعجب صحافي ياباني يتحدث اللغة الإنجليزية من أوراقنا وأقلامنا، وقال لي في الحافلة التي أقلتنا عائدين إلى بغداد من أحد مواقع التصنيع العسكري العراقية: من هو المفتش الدولي المغفل الذي يصدق أكذوبة أسلحة الدمار الشامل، في الوقت الذي ما زال فيه الصحافيون العراقيون يكتبون بالأقلام على الورق بسبب الحصار المفروض على بلادهم؟
لقد شاهد العالم على الهواء مباشرة أول حرب في التاريخ تُنقل وقائعها التدميرية المأساوية تلفزيونياً في حرب العراق عام 2003. وكان التصوير أرضياً وفضائياً طوال أيام الحرب، عبر أقمار التجسس الأميركية والروسية والفرنسية وغيرها. ولعبت وكالة «ناسا» الدور الأول في نقل الحرب تلفزيونياً، إذ خصصت قمراً صناعياً مزوداً بكاميرات نقلت أحداث الحرب والمعارك منذ اللحظة الأولى لانطلاق الطائرات القاذفة والصواريخ الذكية على العاصمة العراقية، بأمر من الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن. كان النقل التلفزيوني، وهو «تجسس» بالمعنى الحرفي للكلمة، مباشراً مثل نقل أي مباراة كرة قدم! الصواريخ تنهال على مواقع عسكرية ومدنية، وطائرات القنابل الذكية تكمل المهمة بلا هوادة. وكان العالم يتفرج على حرب لا شرعية ولا مسوّغ لها، إلا أكداساً من الأكاذيب، كما اعترف المسؤولون الأميركيون فيما بعد، والمفتشون الدوليون الذين كانوا يجوبون مدناً وقرى ومعسكرات وجامعات ومعاهد ومراكز البحوث والمستشفيات والأنهار والبحيرات والأراضي الزراعية والبساتين والمقابر، وحتى القصور الرئاسية في بغداد والمدن الأخرى. والنتيجة كما يعرف الجميع إعلان الرئيس بوش احتلال العراق، سواء وافق مجلس الأمن الدولي أو لم يوافق. وأردد في ختام المقال ما قاله والد ليلى في مسرحية «مجنون ليلى»: «امض قيس أجئت تطلب ناراً... أم تُرى جئتَ تُشعل البيت ناراً؟».