- الغموض، أو شيء من الغموض، في العمل الفنّي، هو أكثر ما يشدّنا إليه في الحقيقة!.
- قد يُعجبنا الواضح ويروق لنا إلى حين، لكن الغموض هو ما يستوقفنا!.
الواضح لا يستوقفنا، ومع ذلك لا نتحرّك من خلاله. نُكمل طريقنا بالقوّة الذّاتية الموجودة فينا والتي لا دخل له بها!. على الجانب الآخر: يستوقفنا الغموض، ثم سُرعان ما يدعمنا بطاقة ذات وقود هائل، لنكمل الطريق بنشاط أكبر ورغبة أشدّ ومتعة أوفر وقدرة أكثر تفوّقًا!.
- يتبدّد إعجابنا بالواضح المكشوف بعد مدّة، تتناسب طرديًّا مع درجة وضوحه وجلائه!. كلّما كان واضحًا أكثر، أسرع في التّبدّد والزوال!.
- الغامض، الخفيّ، المُضمَر، هو ما يبقى فينا!. إن فهمناه وأدركناه وتقصّينا أبعاده بنجاح، صار واضحًا، وبوضوحه وانكشافه تبدأ رحلة نسيانه!. لكنه يُبقي فينا، متعة التأمّل السابقة، ولذّة البحث والاكتشاف، بما يضيف لنا خبرات رائعة في التأمّل وعن التّأمّل!. وحين يواجهنا غموض جديد، تشتغل هذه الخبرات بمحفّزات بهيجة، لخوض غمار تجربة بحث وتأمّل جديدة!.
- لكن الغامض، الذي يظل غامضًا، يبقى!. حتى لو لم نفهمه، نحسّ بأثره فينا!. نشعر وكأنه يثرينا على نحو مبهم!.
- ليس صحيحًا، أننا لا نشعر تجاه الغموض بمودّة من نوع خاص، وقد تكون هذه المودّة نفسها غامضة، لكنها موجودة فينا!. ربما لأننا أتينا من غموض ما!. إذ لا أحد يتذكّر عالَم ما قبل الولادة، أعني عالمه الخاص، الذي أتى منه إلى هذا العالَم!. كما لا أحد يقدر على فهم خالص لتلك المحبّة ولا لذلك الحنان الذي تغمر به كل أُمّ صغارها!. نرى أثر ونتائج تلك المحبّة وذلك الحنان، لكن دون أن نعرف سبب كثافته وامتداده، وكيف يمكن لأُنثى الطير، مثلًا، الدفاع عن صغارها وحمايتهم، والمخاطَرَة بنفسها، لدرجة تقديم نفسها ضحيّة سهلة لمصدر الخطر الدّاهم!.
- وعليه، فإننا نمتلك عن الغموض خبرات جماليّة، وخَيِّرَة، بعضها طبيعي وبعضها فطري، وبعضها مُكتسب بطرق عديدة مثل العشق ومثل التأمّل الأدبي والمعايشة الفنيّة، وكلها خبرات تدعم الغموض بما يحبّبنا فيه!.
- التقدّم الإنساني كلّه، بأدبه وبعلمه، قائم على الفضول!. والفضول حب معرفة، وحب المعرفة يشترط وجود غامض ومجهول لنعرفه ونفهمه!.
- الوضوح مُدّة، الغموض امتداد!.
- أخيرًا:
لا علاقة للتعقيد بالغموض!. الغموض الفنّي في أعلى حالاته فاعليةً وتأثيرًا، وجمالاً، مرتبط بالبساطة، والبساطة ليست السهولة: “ضع نُصْب عينيك ابتسامة الموناليزا دائمًا”!.
ما لا معنى له، ولا ترابط فيه، ليس من الغموض في شيء!. هو ببساطة مكشوف، ودليل أنه مكشوف: معرفتنا بأنه لا يحمل معنى ولا يُقيم ترابطًا وليس فيه، ولا بين أجزائه، تناغم وانسجام!.
ما يثبت لك، ويستقر في يقينك، وتتحقق فعلًا، بخلوّه من أي معنى وافتقاره لأن يكون دليلًا عقليًّا أو دلالة عاطفيّة، دعه وشأنه!. التمسّك به والوقوف عنده لا فضول ولا فضيلة!، ولن يقودك لغير عُقْم وإحباط!.