بالرغم من أن تمثال الجنرال الإسباني فرانشيسكو فرانكو قد أقيم عام 1978 أي بعد وفاته بثلاث سنوات في مدينة مليلية فقد قرر المجلس البلدي لتلك المدينة أخيرا إزالته.

كان ذلك التمثال آخر تمثال للجنرال تتم إزالته بعد أن كانت تماثيله تتوزع بين المدن والبلدات الصغيرة طوال فترة حكمه. وقد سبق ذلك الإجراء قرار أصدرته محكمة في مدريد يقضي بنقل رفاته من وادي الشهداء إلى مكان آخر. وبذلك تُطوى صفحة فرانكو الرمزية بعد أكثر من أربعين سنة من وفاته.

لم يكن ظهور فرانكو حدثا عاديا في التاريخ الإسباني الحديث. لذلك يختلف الإسبان في مسألة النظر إليه. فمنهم مَن يعتبره بطلا قوميا أنقذ إسبانيا من الفوضى ومنهم مَن يعتبره مجرما ليس من اليسير نسيان الجرائم التي ارتكبها جيشه وحرسه أيام الحرب الأهلية بدءا من عام 1936 حتى عام 1939.

حكم فرانكو إسبانيا من عام 1939 حتى وفاته عام 1975 بروح الرجل المستبد الذي لا يتورع عن استعمال العنف ضد معارضيه في أي لحظة يشعر فيها بالخطر.

لا أريد هنا أن ألقي الضوء على حياة فرانكو لمناسبة إزالة آخر تماثيله بل جعلني ذلك التمثال أتأمل طريقة التفكير الرصينة التي اتبعها الإسبان في التعامل مع مرحلة هي واحدة من أكثر المراحل التباسا في تاريخهم المعاصر. وكان سلوكهم مع رمز تلك المرحلة، الجنرال الذي احتقر الديمقراطية بتأن وصبر عنوانا لرقيهم وقوة إخلاصهم لتاريخهم الذي اعتبروه من صناعة الجميع: أعداء الجنرال وحلفاؤه.

لم يتم تحميل الجنرال تبعة كل ما جرى. وبشكل أكثر شمولية فإن التحول الديمقراطي الذي جرى عام 1975 لم ينطو على شيء من الانتقام من مرحلة حكم الجنرال. لقد طويت صفحة الحرب الأهلية. لم يبق منها إلا ما يتردد في الأدب والفن.

لا يعني ذلك أن الجنرال نجح في طي تلك الصفحة بل ذلك معناه أن الشعب كان مصمما على استنهاض الحياة الديمقراطية التي حُرم منها بعد سقوط حكومة الوحدة الشعبية وحتى وفاة الجنرال.

حين مات الجنرال كانت هناك مهمة تاريخية حاسمة، الهدف منها إلحاق إسبانيا بأوروبا الديمقراطية ولو فكر الإسبان في الانتقام لظلوا عاجزين عن الخروج من زمن الجنرال. سيخيفهم الجنرال بالرغم من أنهم يعرفون جيدا أنه يرقد في قبره بوادي الشهداء.

وإذا ما كان قرار نقل رفاته قد تأخر أربعين سنة فليس ذلك إلا بسبب احترام الإسبان، بعضهم للبعض الآخر. لا يزال هناك مَن يحب فرانكو ويؤمن بأنه كان على حق.

ولأن الشعب الإسباني كان حريصا على أن يتم انتقاله إلى فضاء الديمقراطية بطريقة نزيهة بعد عام 1975 فإن قبر الجنرال لم يكن يخيفه كذلك تماثيله المنتشرة في كل بقاع إسبانيا.

وفي المحصلة فقد انتصرت إسبانيا على الجنرال من غير أن تمسه. لا لشيء إلا لأن شعبها كان صادقا مع نفسه. رفض أن يلتفت إلى الوراء. فالوطن الذي كان فرانكو مخلصا له بطريقته الخاصة هو في حاجة إلى أن ينتقل من تلك الطريقة إلى طريقة تضع إسبانيا في قلب أوروبا الديمقراطية باعتبارها عضوا في الاتحاد الأوروبي.

لم يلتحقوا بفرانكو بل تركوه يمضي إلى قبره وحيدا. تركوه للمؤرخين وكتاب السير والروائيين والشعراء.

كل ما حدث في إسبانيا جعلني أفكر بالطريقة الفظة التي تعامل بها الشعب العراقي مع زعيمه الراحل صدام حسين. فالرجل أحبه الكثيرون وكرهه الكثيرون ولكنه غادر الحياة. هو الآن في قبره وليس هناك معنى للخوف منه. أما أن يُجر الشعب إلى التفكير الدائم في مرحلته فليس ذلك سوى محاولة لدفن ذلك الشعب في قبر زعيمه الراحل.

الواقع العراقي يشير إلى أن محبي صدام حسين وخصومه يقيمون في ذلك القبر. أما العراق فقد تُرك للصوص والفاسدين والقتلة والأفاقين والمحتالين والمزورين والمهربين وحملة السلاح وهو بالضبط ما خطط له المحتلون. لقد بدأوا مخططهم بإسقاط تمثال صدام وكان ذلك الحدث إيذانا بمرحلة احتلال العراق وهو ما كان على الشعب العراقي أن يفكر في معانيه العميقة. فقد أشرت لحظة سقوط ذلك التمثال بداية لاحتلال سيستمر طويلا. غير أن من المؤسف أن الشعب تعامل مع ذلك الحدث بطريقة لا تليق بشعب يبحث عن المستقبل ويتوق إلى الحرية.

لقد تصور خصوم صدام حسين أن التخلص من تمثاله سينجيهم من الخوف منه. غير أن الوقائع أثبتت أن لا شيء من ذلك حقيقي. لا يزال شبح صدام حسين يطاردهم لأنهم لم ينتقلوا بالشعب إلى مرحلة يمكن النظر إليها باحترام كونها تمثل الوجه الآخر للحياة السياسية. ذلك الوجه الذي لم يره أيام حكم الرئيس الراحل. أما محبوه فإنهم غير قادرين على أن يصدقوا أن زمنه انتهى.

بعكس فرانكو كان صدام حسين سيء الحظ مع خصومه ومحبيه على حد سواء.