ثمة شبح يلقي بظلاله على السياسة الخارجية الأميركية: شبح دونالد ترمب، أو على الأقل بعض الجوانب المثيرة للجدل من اختيارات الرئيس السابق.
حول ما يخص الصين، صعدت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن الجديدة الخطاب العدائي، وألقت باللوم على بكين في مجموعة من الأخطاء في الوقت الذي أثنت فيه عليها بوصفها شريكاً استراتيجياً في مهمة «إنقاذ الكوكب»، بغض النظر عمّا يعنيه هذا الأمر.
وحول ما يتعلق بروسيا، أصدر الرئيس بايدن سلسلة من الإيماءات الدبلوماسية في الوقت الذي تحدث فيه عن تعاون وثيق مع موسكو بخصوص قضايا مثل محاولة إقناع ملالي طهران بالعودة إلى «الاتفاق النووي» سيئ السمعة الذي وضعه (الرئيس الأميركي الأسبق) باراك أوباما. علاوة على ذلك، يجري تصوير الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على أنه أقرب إلى زعيم جماعة، في الوقت ذاته الذي يجري فيه التودد إليه على أنه شريك في مطاردة شبح السلام في أفغانستان.
في أفغانستان على وجه التحديد، اتبع بايدن سياسة إدارة ترمب غير المنطقية القائمة على الانسحاب الكامل مقابل وعد مبهم من «طالبان» - واحدة من كبرى الجماعات الإرهابية - بتخفيف حدة هجماتهم المميتة. والمثير أن هذه تحديداً كانت السياسة التي عارضها بايدن عندما كان في منصب نائب الرئيس أوباما، بوصفها «سابقة لأوانها».
وحرص الرئيس بايدن على تفادي أي انتقادات باتباع «نهج ترمب»، من خلال إرجاء السحب المقرر لمدة 3 أشهر، من مايو (أيار) إلى 11 سبتمبر (أيلول) المقبل. كما نسي المهللون له في بعض قطاعات الإعلام والنخبة السياسية الأميركية، معارضتهم الخطة المبدئية التي طرحها ترمب والتي وصفوها بأنها «فرار سريع مثير للسخرية لدى البعض»، في الوقت الذي أشادوا فيه بحكمة بايدن في اختيار تاريخ شديد الرمزية لسحب القوات من أفغانستان.
والآن؛ ماذا لو أن سياسة بايدن تعني خلق مشكلات مستقبلية؟
جدير بالذكر هنا أن «11 سبتمبر» المقبل يمثل الذكرى الـ20 للهجمات الإرهابية الفتاكة ضد أهداف في نيويورك وواشنطن، والذي يعدّه السواد الأعظم من الأميركيين واحداً من أسود الأيام في تاريخ الأمة، لكن ماذا لو أن «طالبان» أو الجماعات الإرهابية المشابهة، مثل «داعش» أو «خراسان» أو «شبكة حقاني» اختارت على وجه التحديد هذا الموعد لتذكير العالم بأنها لا تزال حية وقوية؟
ومن باستطاعته ضمان أن أجزاءً من أفغانستان لن تتحول، من جديد، إلى قواعد لـ«تصدير» الإرهاب لما وراء المنطقة، وما الذي يمنع وصول هذا الإرهاب إلى الولايات المتحدة؟
من ناحية أخرى، نجد أن المبررات التي يسوقها الرئيس بايدن لتبرير اتباعه خطة ترمب إما ساذجة وإما غير واقعية. يقول بايدن إن وجود الولايات المتحدة في أفغانستان استمر «لفترة طويلة على نحو مفرط»، وإنه لا يرغب في أن يصبح الرئيس الخامس الذي يستمر في هذه الملحمة المؤسفة.
في الواقع؛ بداية المشاركة الأميركية في أفغانستان جاءت في عهد الرئيس جيمي كارتر الذي أرسل مستشاره لشؤون الأمن القومي زبغنيو برجينسكي لتنظيم الجهاد ضد النظام الدمية في أيدي السوفيات داخل كابل. وكثف الرئيس رونالد ريغان هذا «الجهاد» من خلال توفير مزيد من الأسلحة الفاعلة للمجاهدين الأفغان ومعاونيهم من «الأفغان العرب».
أما الرئيس بيل كلينتون، فقد أقر ضمنياً استيلاء «طالبان» على السلطة من خلال إرساله مستشاره للأمن القومي بيل ريتشاردسون لحضور لقائه سيئ السمعة مع الملا محمد عمر في كابل.
وشهد الفصل التالي من هذه الملحمة المروعة فرار الملا عمر من كابل على ظهر دراجته النارية بينما كانت قوات أميركية بعث بها الرئيس جورج دبليو. بوش تطارده. في ذلك الوقت، دعا البعض منا إلى ضرورة تجنب الولايات المتحدة الخوض لعمق أكبر في المأزق الأفغاني، وترك الأفغان يتولون مهمة ترتيب أوضاعهم في مرحلة ما بعد «طالبان».
بدلاً من ذلك، اختار بوش وأوباما استراتيجية بناء الدولة التي أدت إلى زيادة أعداد القوات إلى 130 ألفاً، وإغداق كميات ضخمة من الأموال داخل البلد الذي مزقته الحروب. وأعلن أوباما في أفغانستان «الحرب الطيبة» على النقيض من «الحرب الرديئة» في العراق.
بعد مرور عقدين، أثبتت استراتيجية «بناء الدولة» نجاحاً أكبر مما كنا نظنه عام 2002. ولذلك، فإنه بعدما كنا نطالب بخروج سريع من أفغانستان عام 2002 أو 2003، نعتقد الآن أن التفاعل والمشاركة المستمرة هناك السبيل الأمثل لخدمة المصالح الأميركية.
واليوم، تراجع الوجود العسكري الأميركي إلى نحو 2500 مستشار وضابط تدريب وفني، بينما لم تعد هناك قوات مقاتلة. ويعد هذا الوجود عنصر دعم أخلاقي للأفغان، وضماناً بدعم قوات الدول الأخرى الأعضاء في «الناتو» البالغ قوامها 8 آلاف جندي. كما أن هذا الوجود إشارة قوية إلى أن الولايات المتحدة لا تتخلى عن حلفائها ولا تترك موقعاً ما دامت حكومة حليفة لها لم تطلب منها ذلك.
أما فيما يتعلق بتكلفة المشاركة في أفغانستان في الوقت الحاضر، فإنها لا تكاد تذكر مقارنة بما تنفقه الولايات المتحدة في أوروبا أو الشرق الأدنى.
في الواقع يبدو حديث بايدن عن طول أمد المشاركة الأميركية في أفغانستان غريباً بالنظر إلى أمد الوجود الأميركي في ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية الذي بدأ منذ 8 عقود وتعاقب عليه 13 رئيساً. وتتجلى المفارقة في أنه بعد يوم واحد من تحديد موعد الانسحاب من أفغانستان، أصدر بايدن أوامره بإرسال مزيد من القوات لألمانيا.
الحقيقة أن تحديد الموقف من قضية أمن وطني كبرى على أساس اتفاق غامض ومقلقل مع جماعة إرهابية يكرهها غالبية الأفغان، يعدّ إشارة لجماعات إرهابية أخرى بأن السبيل الأمثل أمامها هو البقاء داخل حلبة الصراع حتى تتمكن الشكوك السياسية والوهن الأخلاقي من «الشيطان الأعظم».
والسؤال الآن: هل ثمة سبيل للخروج من المأزق الذي أوجده ترمب وبايدن؟
أعتقد نعم، ذلك أنه بمقدور بايدن ربط الانسحاب بتشكيل حكومة انتقالية وجعل هذا الأمر جزءاً من الاتفاق. ولا يمكن ترك هذه المهمة لإردوغان الذي يجعله فشله في حل مشكلات تركيا، غير مؤهل للاضطلاع بدور صانع السلام. وينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها في «الناتو» التعاون مع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في هذا الصدد. وعلينا أن نتذكر أن المشاركة الأميركية في أفغانستان جاءت على أساس مهمة تابعة للأمم المتحدة.
ولا يمكن تشكيل الحكومة الانتقالية من خلال القنوات التقليدية المتمثلة في زعماء القبائل والملالي وكبار عناصر المجتمع الأفغاني فيما يعرف بـ«لويا جيرغا»؛ ذلك أن أفغانستان اليوم لديها دستور وثقافة سياسية جديدة جرت صياغتها على امتداد العقدين الماضيين عبر العديد من الاستفتاءات والانتخابات المحلية والبرلمانية والرئاسية. وسيشكل تجاهل كل ذلك خطأً وظلماً وخيانةً لكل من الشعبين الأفغاني والأميركي.
والملاحظ أن جميع الأسماء التي جرى الترويج لها على أنهم أعضاء في الحكومة الانتقالية تخص رجالاً في السبعينات والثمانينات من العمر، كانوا مسؤولين بيروقراطيين في رتب متوسطة خلال عهد الملكية، أو من المغرمين بإبرام الصفقات من المقيمين في الخارج، أو لوردات حرب سابقين لديهم ملفات متخمة بالجرائم.
من جهتهم، يتحدث مساعدو بايدن عن الانسحاب بشرف. من وجهة نظري؛ ما دامت الفترة الانتقالية لا تجري داخل الإطار الذي حدده الدستور الأفغاني وبمشاركة جيل سياسي جديد يعكس الواقع السياسي الأفغاني اليوم، فإن خطة ترمب - بايدن لن تكون سوى خطة فرار سريع لا تليق بالولايات المتحدة.