في الأساس كانت المواجهات في القدس، والتي قال البيت الأبيض إنها يجب أن تبقى «مكاناً للتعايش»، وقبله البابا فرنسيس الذي طالب بالبحث عن حلول «من أجل احترام الهوية متعدّدة الثقافات للمدينة المقدسة». الصيغتان غير جديدتين وتشيران إلى «حل تاريخي حضاري» لا بدّ منه، لكن المجتمع الدولي لم يبذل الجهد الفكري والسياسي الضروري لإقناع إسرائيل به، أو على الأقل لإلزامها بعدم تقويض مقوّماته المستقبلية. فالقدس كما بيّنت الأيام الأخيرة هي العنوان الحقيقي للصراع في المنطقة، وللمسألة الفلسطينية، ولا يمكن إخضاعها -عسكرياً- لـ«تهويد» أو «تنصير» أو «أسلمة»، بل لنظام دولي خاص يتقبّله الجميع ويفرض احترام كل الديانات وحرية العبادة. وبالتوازي لم يكن هناك داعٍ أمني ولا سياسي للسعي إلى اقتلاع سكان حي الشيخ جرّاح ولإضافة مساحة أخرى من القدس الشرقية إلى مئات القرى والبلدات الفلسطينية التي هُجِّر سكانها عنوةً قبل 73 عاماً. الأمم المتحدة وكل الدول دعت إلى إبقاء الوضع القائم في القدس على حاله في انتظار الحلّ السلمي النهائي، حتى لو تأخّر إنجازه.

كان هناك تعاطف عالمي مع المقدسيين في مواجهتهم السلمية للعنف الإسرائيلي، لكن الوضع انقلب عندما دخلت صواريخ غزّة على الخط واستدرجت ردّاً إسرائيلياً أكثر عنفاً. بين لحظة وأخرى تغيّرت المفاهيم، فانتقلت العواصم ووسائل الإعلام من فلسطينيين يتعرّضون لاعتداءات إسرائيلية في القدس، إلى إسرائيل «المعتدى عليها» وحقّها في الدفاع عن نفسها. انصبّت الإدانات على فصائل غزّة وصواريخها، ولم يؤخذ بادّعائها «نصرة القدس» أو حتى برفعها شعار «المقاومة ضد الاحتلال». وكما في حروب غزّة الثلاث السابقة لم يكن هناك مجال للمقارنة بين موازين القوى أو من يستطيع ردع الآخر، فالأمر محسوم لمصلحة الجانب الإسرائيلي.
تتكرّر السيناريوهات السوداء: ضحايا مدنيون في معظمهم، دمار كبير وبنية تحتية خارج الخدمة، إسرائيل تنهي فصلاً دموياً في انتظار فصل تالٍ، فصائل تتزعّمها «حماس» وتحسب «شرعيتها» بعدد قادتها القتلى. ثم ماذا؟ مجرد «تهدئة» لا يُبنى عليها سلام. كل هدنة هي وقت مستقطع لتحضير مواجهة أخرى آتية لا محالة، وبإرادة الطرفين. لكن هذا المنطق العبثي للأحداث أشعر «حماس» بأنها تكسب رغم عدم الاعتراف بسلطتها في القطاع، ويتصل زعيمها بقادة الدول المحسوبة في «محور الممانعة» الإيراني باعتباره ممثلاً لفلسطين. في المقابل تبدو السلطة الفلسطينية المعترف بها، المنضوية في الشرعية الدولية، كأنها كيان هامشي ينتظر نجاح المجتمع الدولي في إيجاد فرص جديدة تعيدها إلى التفاوض مع إسرائيل.
قال وزير الخارجية المصري سامح شكري لنظرائه في الاجتماع الافتراضي: إن المواجهة الحالية في القدس «لم تندلع من فراغ وإنما على خلفية الغياب الكامل لكل أفق سياسي لتسوية القضية الفلسطينية عبر إنشاء الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس»، معتبراً أن المطلوب أكثر من «تهدئة»، لأن مثل هذه الأزمات «ستتكرّر ما لم تُحلّ القضية الأساس». لكن ماذا عن غزّة، وهل هي مرتبطة فقط بالانقسام الفلسطيني أم بإرادة من يموّل الفصائل ويديرها؟ أصبح إنهاء الانقسام ميؤوساً منه، ويجري التعامل معه كأمر واقع رغم الأضرار الفادحة التي يتسبّب بها للشعب الفلسطيني وقضيته. في النقاش الحكومي الإسرائيلي لأهداف الحملة الحالية على غزة كان هناك حرصٌ على عدم «انهيار حماس» تجنّباً للفوضى في القطاع.