مر حتى الآن أربعة أيام على انطلاق حملات الانتخابات التشريعية الجزائرية في كل محافظات الوطن. ولقد برزت فيها ثلاث ظواهر جديرة بالتحليل، منها على سبيل المثال ظاهرة ادعاء معظم أحزاب الموالاة والأحزاب المهادنة والمعارضة أنها تملك مشاريع تحديث المجتمع الجزائري والحلول الكفيلة بإنهاء الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتجاوز بعضها سقف الادعاء إلى القول بأنها تغيّرت راديكالياً، وبموجب ذلك فإنها ستحدث تحوّلاً حقيقياً في أسلوب عملها وفي أفكارها ومقارباتها للقضايا الوطنية الملحة.

ولكن الواقع يقرّ بغير ذلك، لأن التغيير لا يحدث في رمشة عين بل هو عملية قلب كامل للبنية الثقافية والنفسية التي أفرزت وشكلت هذه الأحزاب منذ نشأتها إلى الآن، وإحلال بنية ديموقراطية بديلة محلها على مستوى الفكر والممارسة اليومية.

وتتمثل الظاهرة الثانية في ترشيح كثير من الأحزاب الشباب والشابات بنسبة تتراوح بين 50 و70 في المئة، علماً أن قانون الانتخابات العضوي الخاص بالتشريعيات منح فقط 50 في المئة مناصفة لفئة الشبان والشابات الذين تتراوح أعمارهم بين 18 سنة وأقل من أربعين سنة.

أما قوائم المترشحين والمترشحات الأحرار المنشورة في مختلف الصحف فقد بيّنت أن أغلبها تضم حصرياً الشابات والشبان الذين تقل أعمارهم عن 40 سنة فقط، بدعوى عدم تكرار التجارب السابقة التي سيطر فيها على البرلمان بغرفتيه السفلى والعليا الشيوخ المسنّون الذين يوصفون بالديناصورات القديمة.

هذا من حيث الشكل، أما من حيث المضمون فيرى المراقبون أن كثرة الشبان والشابات المترشحين والمترشحات الجامعيين والجامعيات في هذه القوائم بداية إيجابية ستحدث تغييراً ملموساً في جوهر نتائج الانتخابات التشريعية التي ستجري يوم 12 حزيران (يونيو)، وهناك من يجزم بأن البرلمان القادم سيقضي، بأثر رجعي، على جزء كبير من الأمية الثقافية والعلمية والمهنية التي وصمت أعضاء البرلمان الجزائري في الماضي القريب والبعيد.

ولكن يلاحظ أن رواد فضاء التواصل الاجتماعي الجزائري منقسمون على أنفسهم. فهناك مجموعات تعتبر اختيار الأحزاب وعرّابي ضبط قوائم المترشحين والمترشحات الأحرار النساء الأكثر جمالاً ووسامة مجرّد مصيدة إغراء نصبها النظام الجزائري للناخبين في الجزائر العميقة، وثمة مجموعات أخرى تعارض هذا الحكم وتعتبره تعسفياً وبقية من بقايا ثقافة الذكورة الرجعية التي يسعى حملتها إلى تكريس تبخيس المرأة واختزالها في شكلها الخارجي المتمثل في جماليات جسدها فقط.

واللافت للنظر هو أن كثيراً من تعليقات الذكور المنشورة في "فايسبوك" على نحو خاص، تردّد عبارات مثل "برلمان الحلاقات" في إشارة واضحة إلى برلمان عهد الرئيس السابق بوتفليقة و"برلمان الحسناوات وعارضات الأزياء" وغيرها من النعوت المخلة بمكانة النساء في المشهد السياسي الجزائري.

سيفضي تحليل تعليقات عدد كبير من المدوّنين ورواد "فايسبوك" بخاصة، إلى إدراك أن المجتمع الجزائري كان ولا يزال بطريريكياً ولا يقبل حتى الآن مبدأ المساواة بين الجنسين وحق المرأة في العمل السياسي وتمثيل المجتمع، علماً أن الحضور الفعلي والنوعي المنتج للنساء العاملات في مختلف المؤسسات وقطاعات التنمية الوطنية يتجاوز حضور الذكور، وبخاصة في مجالات التعليم بكل أنواعه ومستوياته وقطاعات الصحة والرعاية والبريد والطيران والإدارة والإعلام بمختلف تخصصاته.

والحال، فإن هذه التمثيلات الذكورية المتشنجة للمرأة الجزائرية وغيرها التي تستهدف المترشحين والمترشحات لا تستند إلى أي معيار علمي موضوعي، بل هي في الغالب مجرد ترجمة غير مباشرة حيناً وغير واعية أحياناً كثيرة، لخوف الذكور من فقدانهم السيطرة التقليدية في المجتمع والامتيازات في سوق العمل معاً.

أما الظاهرة الثالثة التي تطفو الآن على السطح فتتمثل في حيرة جزء معتبر من الحراك الشعبي من الإقبال الكاسح للشباب والشابات على ترشيح أنفسهم للانتخابات البرلمانية، سواء ضمن قوائم الأحزاب أم ضمن القوائم المخصصة للمترشحين والمترشحات الأحرار، علماً أن الخطاب السائد لدى النسبة الكبرى من "الحراكيين" هو خطاب مقاطعة الترشح لهذه الانتخابات، وبناءً على ذلك فهم يعتبرون كل من سوّلت له نفسه وترشح بمثابة الخارج عن صف معارضة النظام الحاكم.

وهكذا يستنتج الملاحظ أن الصف الشباني الجزائري ليس واحداً وموحّداً، بل هو منقسم فعلياً، وسوف يلعب هذا الانقسام دوراً مفصلياً في إضعاف فسيفساء المعارضة الحزبية وفصائل المجتمع المدني. وسوف يلجأ النظام الجزائري الحاكم في قادم الأيام إلى توظيف هذا التشظي لمصلحته لترسيخ هيمنته، وذلك إذا استمر الحراك الشعبي في تظاهراته بعد تشكّل البرلمان الجديد وتعيين حكومة جديدة توافق عليها أطياف البرلمانيين الجدد الذين تعوّل عليهم السلطات الحالية أن يمنحوها الشرعية التي كان قد افتقدها برلمان مرحلة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.

وفي الحقيقة، فإن هذا الانقسام في صفوف الشباب ليس معزولاً عن انقسامات درامية أخرى أكثر خطورة داخل فسيفساء الحراك الشعبي نفسه الذي لم يقدر، منذ انطلاقته، أن يبتكر أسلوباً جماعياً يوحّد طاقاته البشرية ومضامينه العقائدية وبنيته التنظيمية التي بموجبها كان يمكن أن يفرز قيادته التمثيلية الشرعية وبرنامجه السياسي والتنموي والاجتماعي والثقافي والتربوي البديل.

وبالعكس فقد بقي هذا الحراك متمسكاً بتشظيه وبترديد شعارات مكررة في ظل سيطرة مجموعة معروفة عليه، وهي تتكوّن من الأسماء التي ما فتئت تقدم نفسها مرة ضمن القوائم التي تضع فيها نفسها كممثلة للحراك الشعبي وطوراً بواسطة الاستحواذ على منصّات وسائل التواصل اللاجتماعي والصحف والفضائيات التلفزية، حيث ما فتئت تنشر وتعلن عن تصريحاتها وتعليقاتها. وينتظر أن تكون لهذه الانقسامات تداعيات سلبية، ويعتقد أنه من الصعب أن تتحول، ما دامت هكذا، قوة ضاغطة فاعلة شعبياً وقادرة على أن تتحول إلى قطب سياسي له فرادته، أو تخلق توازنات بديلة في المشهد السياسي الجزائري العام.