يواصل #العَفَن السياسي اللبناني نضوجه المُبْهِر.
مبهرٌ لأنه يجدّد تقديم مادة لسياسات إقليمية (خارجه) شديدة الحيوية.
دعونا لا ننسى: لبنان منهار في منطقة متآكلة ما عدا القوة الإسرائيلية التي عادت تصطدم، رغم تفوقُها كدولة، بعدم القدرة على إخراج العامل الفلسطيني من الصراع فيما هو يُظْهِر قدرة مقاومة مجددة ومتجددة بين النهر والبحر. ويتكرّس أمامها مأزق اليمين الإسرائيلي الرافض والمشوِّه لحل الدولتين.
إذن نحن في لبنان مادة “يؤجّلها” التاريخ. فإمكان استقدام عناصر تجديد لسلامة دولته ومجتمعه يصطدم بالعفن الداخلي لبنيته كدولة وبالأولويات المختلفة البعيدة عنه.

سأنتقل من المبهر إلى المذهل!
العفن اللبناني يتشكّل من قوى لم تفقد نضارتها الصراعية ولذلك فإن “لبنان القديم” يتعفّن ولكنه لا يموت وتحمي عفنه نضارات تفتيتية تقيس مصلحتها العامة بمقاييس من خارجه. العراق القديم مات، اليمن القديم مات، ليبيا القديمة ماتت، حتى سوريا الحالية مستمرة لأن سوريا القديمة ماتت إذا جاز لي التعبير. فالتحول السياسي المتراكم فيها منذ عام 1958 ثم عام 1963، وبعد عام 1970، “أنجز” تغييرَها إلى غير رجعة قبل اندلاع الزلزال عام 2010.

في حالة العفن السياسي اللبناني، وهو عفَنٌ دولتيٌ، الهجرة تتحوّل إلى ليس فقط عنصر بقاء على قيد الحياة، كما كل نجاة من مجزرة، وهي هنا مجزرة اقتصادية اجتماعية سياسية و جسدية كما حصل في الفساد الذي أدى إلى انفجار 4 آب 2020، بل إلى عنصر إنقاذ لحيويات متبقية.

من يراقب السجال السياسي اللبناني في التلفزيونات والصحافة وفي جلسات مجلس النواب، يلاحظ اجترار الطبقة السياسية ومعها الاقتصادية لشعارات ومطالب لا تشبه صيحات الاستغاثة إلا من حيث الإعلان عن خطر الموت ولكنها في العمق صيحات استسلام لمصير مرئي وليس غامضاً. القوى التي تمسك بال”حياة” السياسية اللبنانية، أعني بالموت السياسي اللبناني، كلها قوى على اختلاف علاقاتها “أنجزت” خنق القطاع العام اللبناني إلى حد عدم إمكانية إنقاذه بعد.

“الفَجْعنة” التوظيفية أو النَهَمُ المتوحِّش للتوظيف الذي ساد بعد نهاية الحرب 1975-1990 في القطاع العام والذي ترافق مع بلوغ الريعية المالية ذروتها غير المنتجة، والتي، يجب الاعتراف، أفادت وأغرت وصنعت، طبقة وسطى ميسورة على مدى أكثر من ربع قرن من استقرار سعر صرف الليرة، هذه الفجعنة التي مارستها حتى الثمالة قوى سياسية كانت تنعم باللعب بفيضان من القروض والهبات وتنفق في وعلى فساد شامل، هي أصبحت السرطان الذي ينهش الآن عَظْمَ ولحْمَ بنية الدولة. ولكنها، وهذه هي اللبننة الانهيارية، معادَلة الدولة المنهارة – النظام القوي.

ما يبقى من لبنان هو بضع جامعات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، في مقدمها الجامعتان الأميركية واليسوعية، وبضع مستشفيات في مقدمها المستشفيان التابعان لهاتين الجامعتين، وشبكة ضخمة من المدارس الخاصة غير المجانية، وجيل من الشباب المتعلمين الذين يحاولون عبثاً تغيير النظام السياسي ومجموعة جبال وأنهار ومدن جميلة ولو مشوّهة ومجموعة سياسيين عاجزين وسط روائح العفن السياسي المتنقلة بين أزمات كهرباء وماء ومحروقات ودواء.
عدا ذلك تجليط لا أنكر “نضارة” بعض معطياته.

لفتني وأنا أستمع إلى حلقة برنامج “عشرين ثلاثين” مساء أمس الأول الإثنين الذي يعده ويقدّمه ألبير كوستانيان اقتراحُ أحدِ المشاركين في الحلقة، وهو خبير سياسات مالية وصاحب خبرة خارجية في مؤسسات مالية دولية، ضرورة ليس فقط تشكيل حكومة لبنانية جديدة، كما يطالب الجميع على وجه الكرة الأرضية! بل أيضا ضرورة إعطائها صلاحيات استثنائية. ولم ينتبه الخبير صاحب النية الحسنة أنه بهذا المطلب يمدّ يده إلى إحدى معضلات النظام السياسي اللبناني ما بعد 1990 واعتباراته الطائفية العميقة. فهذه، لو وضعنا جانباً مدى الأهلية الإصلاحية لدى من سيأخذ صلاحيات استثنائية إذا كان آتياً من الطبقة السياسية نفسها، فإن التوازنات الطائفية العقيمة والبشعة التي ألغت أي مركز قرار قادر على الحسم من داخل الدولة التي أصبحت أسيرة نهائية لدى الطائفيات السياسية المسيطرة، هذه التوازنات تمنع تسليم أي حكومة صلاحيات استثنائية. والأمثلة التي قدّمها تتعلّق بظروف سابقة لم تعد موجودة.
هنا يجب القول أن إحدى أهم ما كشفته المبادرة الفرنسية بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، هي عجز هذه الطبقة عن تلقّف أي مبادرة إنقاذية رغم تأييد معظم اللبنانيين للمبادرة.

في السابق كانت تعطى صفات وهمية لهذا النظام السياسي اللبناني القائم وتقاليده. الآن أمام حجم الأزمة ومراوحتها العاجزة عن التقدم، تنبغي إضافة صفة “السخافة” على نظامنا السياسي. ومثل العاهرة العجوز في بعض الروايات الأدبية حين تهب للرقص تبدو طبقتنا السياسية سخيفة ولا أريد أن أقول مثيرة للشفقة، لأنها لا تثير الشفقة بل السخرية.

مع ذلك لنشرب نخب النضارات التفتيتية التي تملأ حياتنا. برافو لقبضايات الحضور التفتيتي الذي لن تغيِّر من عقمه انتخابات نيابية مبكرة بل ستزيده عقماً وبحيوية أقرب إلى القفز مرة أخرى في المسبح ذاته.