عندما حذّر وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان تل أبيب من أنّ كل مكوّنات نظام الفصل العنصري الذي سبق أن عرفه العالم في جنوب إفريقيا، تتوافر في التعامل مع الفلسطينيين، لم يكن يبحث عن مشكلة لا مع الحركة الصهيونية في بلاده ولا مع حكومة بنيامين نتنياهو، بل كان في الواقع يروّج للخط الذي لم تتنازل عنه بلاده ومعها الإتحاد الأوروبي، طوال عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب: حلّ الدولتين.

ولكنّ الكلمات القليلة التي صدرت عن لودريان، كانت كفيلة للإنقضاض عليه، داخل فرنسا، بداية، وفي إسرائيل، لاحقاً.

في فرنسا، ركّزت أجهزة الدعاية التابعة للحركة الصهيونية حملتها على لودريان، لدرجة كادت توحي بأنّه أعلن انتسابه الى "حركة حماس".

وبدا لافتاً أنّ هذه الحملة من الداخل الفرنسي، مهّدت لتصعيد موقف الحكومة الإسرائيلية ضد باريس، فصدرت مواقف عنيفة عن نتنياهو وأعضاء "حكومته" وجرى استدعاء السفير الفرنسي في تل أبيب إريك دانون.

لكنّ إدارة إيمانويل ماكرون، وحيال الحملة التي تعرّضت لها، بقيت "شبه صامتة"، فلا هي تراجعت عمّا قاله لودريان، ولا هي دافعت عن نفسها.

الأهم من ذلك، أنّ الهجومين الصهيوني والإسرائيلي عليها، لم يحرّكا تعاطفاً عربياً مع باريس التي كانت قبلهما بأيّام قليلة، تحت وابل هجوم "عربي فلسطيني"، على خلفية منع محافظ العاصمة التظاهرات التي دعا اليها مناصرو القضية الفلسطينية.

في الظاهر، بدا أنّ باريس سجّلت خسارة كاملة، فهي بفعل قرار محافظ باريس، بداية ونتيجة موقف لودريان، لاحقاً أصبحت في وضعية "لا مع ستّي بخير ولا مع سيدي بخير"، فهل اقترفت خطأ استراتيجياً؟

إنّ الجواب عن هذا السؤال ليس بديهياً، لأنّه يفترض أن يأخذ بالإعتبار عوامل مؤثّرة عدّة، من بينها تموضع فرنسا العربي، من جهة أولى وتجاربها التاريخية، من جهة ثانية، واهتمامها بمكوّنات مجتمعها "المضطرب"، من جهة ثالثة.

لقد قدّمت فرنسا وغيرها من الدول قرائن تؤشّر على نهاية العهد الذهبي للّوبي الصهيوني في العالم، بحيث لم تعد مواقف كثير من الدول المعنية بالصراع العربي-الإسرائيلي محكومة بإملاءات هذا اللوبي، على الرغم من استمرار قوة تأثيره.

وأفول العصر الذهبي هذا يعود الى دخول فاعل جداً لقوى ضغط أخرى على مسار متناقض.

ففي فرنسا، لم تعد الحكومات قادرة على الاهتمام حصراً بمصالح إسرائيل، لأنّها، إنْ فعلتْ، خلقت اضطرابات في مجتمعها المتنوّع الذي يعاني من اضطرابات عميقة، وأعطت الخطاب المتطرّف الذي يغذّي الإرهاب، قوة دفع.

وعليه، فإنّ إعطاء إسرائيل في "يد" محافظ باريس والأخذ منها في "يد" موقف لودريان، يراعيان التوازن الضروري الذي تتطلبّه مصلحة مجتمعها.

ويتناسب هذا "النهج المتوازن" مع مصالح فرنسا في الشرق الأوسط، فباريس ترى نفسها في محور عربي "وافق" على "وجود إسرائيل" ولكنّه يعارض نهجها تجاه الفلسطينيين. أبرز دول هذا المحور هي مصر، ومعها مجلس التعاون الخليجي والأردن.

وهذا "المحور" لا يستطيع الصمت عن انحرافات إسرائيل في التعاطي مع الفلسطينيين، لأسباب عاطفية وقومية وإسلامية ومجتمعية، من جهة ومحاولة لنزع نقاط مهمة في هذه القضية من يد "الإستغلال الإيراني الخبيث"، من جهة أخرى.

والأهم أنّ إدارة الرئيس إيمانويل ماكرون، لأسباب لها علاقة برفع ثقل التاريخ عن مكوّناتها الداخلية وعن مصالحها الدولية، بدأت إجراء مراجعة "شجاعة" لمسؤولياتها عن جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.

وبعد انطلاق المراجعة في الملف الجزائري و"تحديد المسؤوليات"، إكتملت المراجعة في الملف الرواندي المثقل بجريمة إبادة جماعية جرت في العام 1994 ضد التوتسي، على يد طغمة كانت فرنسا تؤيّدها وتسلّحها وتحميها.

وقد اعترف ماكرون بمسؤولية بلاده "في" هذه الإبادة، على قاعدة صمتها عن مجازر امتدّت على مدى مائة يوم وحصدت مليون شخص من التوتسي، وطلب "الغفران" من الضحايا.

وفيما كانت فرنسا تجهّز نفسها لإعلان المسؤولية عن واحدة من أعظم جرائم القرن العشرين، جاءت التطورات في إسرائيل، حيث انتفض عرب 48، قبل دخول "حركة حماس" على الخط وفي أثنائه وبعده، على النهج الإسرائيلي في التعاطي معهم، بشكل عام، ومع ممتلكاتهم ومقدساتهم، بشكل خاص.

و"الأبارتايد" التي تحدّث لودريان عن "مخاطر تطبيقها" في إسرائيل، ليست غائبة عن الدراسات الإسرائيلية نفسها، وبينها تلك التي تتعمّق في شرح التمييز الكبير على المستوى التربوي الذي يعكس نفسه لاحقاً على المستوى المهني، بين الإسرائيليين اليهود والإسرائيليين العرب.

من الواضح أنّ ماكرون الذي يجد نفسه يعتذر عن تغطية الرئيس الراحل فرانسوا ميتران، لواحدة من أبشع الجرائم، لن يقبل أن يتخيّل أن رئيساً سوف يخلفه يوماً، سيعتذر عن صمته هو تجاه جريمة أخرى تحصل ضد الفلسطينيين في إسرائيل.

ولا يمكن فهم هذا البعد "الفلسفي" في تفكير ماكرون إلّا عند التأمّل في إصراره على تمجيد الإرث الذي تركه نلسون مانديلا، بطل إسقاط نظام التمييز العنصري في جنوب إفريقيا.

ولكنّ ذلك على أهميته يبقى ناقصاً، فثمة فرق بين رفع المسؤولية عن الذات وبين الإنخراط في عملية تفضي إلى رفع عبء الجريمة عن الشعوب المستهدفة بها.

إنّ الجريمة الكبرى المتروكة على غاربها هي تلك التي ارتكبها بشّار الأسد، في سوريا، ويكرّسها باحتفالات في انتخابات مصطنعة، كما يرتكبها النظام الإيراني في بلاده، وحيث له وجود عبر التنظيمات المسلحة وفرق الموت التي ينشئها "الحرس الثوري الإيراني".

إنّ غسل اليدين فعّال في مكافحة انتشار الأوبئة، لكنّه ليس كذلك في منع تكرار "التجربة الرواندية".